الإثنين 2019/03/18

آخر تحديث: 15:34 (بيروت)

الحياد الذي يجلدني في بيروت

الإثنين 2019/03/18
الحياد الذي يجلدني في بيروت
increase حجم الخط decrease
مرت ثماني سنوات على أول هتاف للحرية في سوريا، وإلى اليوم ندفع ثمن ذلك الهتاف، ندفع ثمن خيارنا السياسي بمعارضتنا لنظام الأسد. المنفى هو أقل ثمن ندفعه، بينما يدفع البعض منا أغلى في أقبية سجون النظام، حيث يعذبون ويغيبون قسراً. أما من تبقى واستمر بإجهار معارضته داخل سوريا، فيعالجه النظام بالفوسفور الحي.

الوقوف مع الثورة السورية والدفاع عن قضية دفع من أجلها مئات آلاف السوريين حياتهم، هو أمر طبيعي وبديهي بالنسبة إلي، إلا أنه يتطلب مني دفاعاً يومياً أمام معظم السوريين الذين التقيهم في بيروت، والذين أصبحوا يستخفون بقضيتي. فعندما يدركون بأني معارضة، يعقبون بهدوء متزن: "لساتك علقانة هون! القصة أكبر من مؤيد ومعارض".

أصبح موضوع "الحياد" شائكاً بالنسبة إلي، بعدما بدأ عدد من منظمات المجتمع المدني يروّج له كضرورة، رغم أن غالبية هذه المنظمات، قبل أعوام، كانت ذات طابع معارض شرس. لكنها رُوِّضت ولم تعد تذكر جرائم النظام وقضايا المعتقلين والمغيبين قسراً، بعدما فتح النظام السوري الباب أمامها للعمل في الداخل السوري. 

ومؤخراً، حضرتُ عرضاً مسرحياً أقامته إحدى تلك المنظمات، وعندما عبّرت عن استيائي بسبب وقوف امرأة على المسرح ومناداتها بإبادة إدلب لتعود سوريا كما كانت عليه قبل "الأزمة"، ويعم السلام، تم إقصاء رأيي وتوبيخي من قبل مديرة المنظمة، التي قالت لي: "أنتو المعارضين زعران، وما بتقبلوا الرأي الآخر"!

تقبل الرأي الآخر، هو المصطلح الأكثر جدلاً الذي يتم اللعب عليه لتقبّل التطبيع مع النظام السوري. هذا فعلياً ما اكتشفته خلال حضوري ورشة تعليمية عن مبادئ إعداد التقارير الصحافية الاحترافية، أقامها موقع سوري حديث العهد يملكه صحافي سوري اشتهر بـ"معارضته".

في البداية تم التعريف بالمشتركين في الورشة تباعاً، وحينها كانت صدمة الأولى. فعلى الطاولة ذاتها، كنت أجلس مع إعلامين ومراسلين يعملون في التلفزيون السوري الرسمي، ومن بينهم الطاقم الإعلامي الذي كان ضمن وفد النظام في سوتشي.

في البداية استغربت الأمر، وفكّرت أنه ربما هناك مبرر أو سبب وجيه لتواجد هؤلاء الإعلاميين في الورشة التابعة لموقع من المفترض أنه معارض. لكن بداية الورشة استهلت بكلمة للسفير الياباني، الذي أعلن دعم بلاده للمشروع، لافتاً إلى أن الهدف منه هو جمع إعلاميين ذوي وجهات نظر سياسية مختلفة، على طاولة واحدة، في محاولة لإرساء التسامح وإعادة بناء سوريا. 

شعرت حينها بالخداع، وأني وقعت في الفخ. فلماذا أخفى عني القائمون على الورشة أهدافها عندما تقدمت إليها، وسط عشرات الإيميلات المرسلة والتي تؤكد الهدف التعليمي للورشة فقط؟ ولماذا يتعاملون مع رأيي السياسي ومعارضتي للنظام، وكأنه مَرَض، يجب أن أخضع لجلسات لأتطهر منه؟! 

دفعني الفضول إلى المتابعة. وفي الجلسة الأولى، تواصل معنا الصحافي المعارض الشهير وبدأ بالتعريف عن نفسه والتفاخر بماضيه، وبكونه أول صحافي سوري أجرى حواراً مع حافظ الأسد. وعندما سألته عن سياسة الموقع، صارحني وقال: "كان هناك ضخ كبير للأموال للمواقع المعارضة مع بداية الثورة، وكنت مؤمناً بشكل حقيقي بفكرة الثورة، لكن بعد كل ما حدث للثورة من تشوُّه وأسلَمة، أصبحت أقف على الحياد، وليس لدي مشكلة مع وجهة نظر النظام السوري". فأدركت حينها بأن المعارض الشهير هو مع مَن يدفع أكثر، ويبدو أن اليابان اليوم تدفع للحياد المزعوم. 

وفي اليوم الثاني، قررت عدم الذهاب إلى الورشة، إذ لن أشترك في هذه المهزلة. وعندما علم المسؤولون سبب تركي للورشة، وصلتني رسالة بالإيميل تتهمني بأني محدودة الأفق ومتعصبة لرأي، ولا أتقبل الرأي الآخر.

إنها التهم الجاهزة ذاتها، التي يطلقها عليك أصحاب القدرة على تغيير جلدهم في كل مرة، مثل: "الجمود الفكري"، "الانغلاق"، "الأفق المحدود"..الخ. إنهم يستخدمون هذه الأساليب الهجومية ليبرروا تحولاتهم، حتى لا يتيحوا لك المجال باتهامهم بتغيير المواقف على أسس نفعية. والتكاثر السريع لأصحاب الرؤى "الوسطية"، خلال الفترة الأخيرة، يجعل من الحياة في لبنان، مع موقف معارض للنظام السوري، أمراً بالغ الصعوبة. خصوصاً بعدما بدأ السوريون المعارضون يسلّمون بأن تواجدهم في لبنان مسألة وقت لا أكثر، وأن عودتهم إلى سوريا أمر محتمل، وبدأوا يحسبون حساباً لخط العودة.

والأمر الأغرب والأكثر استفزازاً، أن بعض راكبي الموجة الجدد، بدأوا على الفور بتأسيس مصطلحات ثقافية تليق بالمرحلة. فتراهم في الجلسات السورية الجماعية يراجعون الماضي بنظرة ذات بُعد، فيقولون: "هذه ليس اسمها ثورة"، باعتبارها لا تشبه ما رسمه هؤلاء المثقفون في مخيلتهم عن شكل الثورة النموذجي، ولا تشبه الثورة الطلابية الفرنسية، أو الثورة الصينية أو الأميركية. فالبعض بدأ بنكران وجود الثورة من الأساس، ومراجعة الذات لتبرير التغيير الذي يبدوا أنه قادم. هذه النقاشات العابرة مع السوريين في مقاهي وبارات بيروت، تجعلك تشعر بأن بقاءك على موقفك أمر صعب، ويجعلني أسأل نفسي: هل سأتمكن من الصمود أمام موجة الحياد والاستسلام هذه؟ 

في نقاش أحتدّ، وفي آخر أستكين وأفضّل عدم المشاركة. فالبعض في هذه الجلسات يبرر جرائم النظام باعتبارها أمراً طبيعياً يقترن بطبيعة أي حرب تُردي قتلى من الطرفين! وهنا تراني أتشاجر مع أصحاب هذا الفكر. ثم يتحدث آخرون عن عدم قدرتهم على الاستمرار في العيش في لبنان، وعن ضرورة الاستسلام للحياد والعودة، فأتعاطف وأصمت.

نعم، إن بيروت بقسوتها لها دور في كل هذه التخبطات. بيروت التي أسير في شوارعها وألتقط منها كلمات عن الوضع السوري، تدخل كالسمّ في أذنيّ، مثل: "مين سائل بالحرية"، "حبوا بعض"، "خربتوا البلاد"، "خلصت"، "مو مطولين"، "هي مو ثورة" ....الخ. فأحاربها وأضع سماعَتيّ في أذنيّ، وأشغّل أغنية "كايروكي" بأعلى صوت وأدندن: "لو دي آخر أغنية ليّ هأفضل أغني عن الحرية، قولوا معايا بصوت عالي: حرية".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها