السبت 2019/03/16

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

الإرهاب الأبيض

السبت 2019/03/16
الإرهاب الأبيض
تعاطف السكان المحليون مع ضحايا الهجوم الإرهابي في نيوزيلندا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لم يكن انتشار هاشتاغ #WhiteTerror (الإرهاب الأبيض) عبر مواقع التواصل بعد الهجوم الإرهابي في نيوزيلندا عبثياً. فرغم انتشار حالة من التباكي والاستعطاف ولعب دور الضحية، التي لا تفيد إلا في إثارة مزيد من التوترات بين الأديان وتغذية التطرف، فإن إصرار كثيرين على المصطلح، من بينهم أشخاص بيض غير مسلمين، حتى عند استخدامه في تغطيات وسائل الإعلام الكبرى، يشير إلى تطور في النظرة لمفهوم العنف وجرائم الكراهية الفردية والإرهاب.


وفي السنوات الأخيرة ارتفع مستوى الخطاب الشعبوي في السياسات الغربية، وبرز اليمين المتطرف كقوة سياسية في أوروبا الغربية استطاعت اختراق البرلمانات في ألمانيا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية عبر حزب "البديل"، وصولاً لانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فضلاً عن نزعة مشابهة في دول مثل إيطاليا وهنغاريا وبولندا. وأسهم ذلك في إعطاء الأفراد الذين يؤمنون بشيء من أفكار اليمين المتطرف، بُعداً أيديولوجياً حولهم مع مرور الوقت إلى مجموعة أكثر تنظيماً، تتواصل عبر الإنترنت.

وأشارت وسائل إعلام عالمية، إلى أن الحكومات الغربية غضت النظر عن المتطرفين البيض عبر الإنترنت وعززت رقابتها للمواقع الجهادية مثلاً، وتبرز هنا مواقع مثل "فور تشان" و"إيت تشان" (4chan, 8chan) المشهورة بكونها منصات بدائية للنقاش حول ألعاب الفيديو بشكل خاص. وهناك ينشط القراصنة الإلكترونيون والمسربون للمعلومات من الشركات الكبرى، بما في ذلك شركات الموسيقى والأفلام والألعاب والتلفزيون. ويمكن إيجاد كافة أنواع الشائعات والنقاشات العنصرية والجنسية والعنفية، التي تتم كلها بأسماء وهمية وعبر لغة الإنترنت القائمة بشكل أساسي على السخرية التعبيرية و"الميمز".

وفي مثل هذه المواقع، تتوافر أقسام خاصة بنقاشات حول السياسة والدين وغيرها، وإن كانت خصائص النقاش فيها متشابهة مهما كان نوع الموضوع، فتبرز قيم مثل التنمر. ويعني ذلك أنه كلما كان "الميم" أكثر قبحاً، كلما كان أكثر انتشاراً، ويتم استخدام ثيمات عنصرية فيه، تجاه جماعات عرقية ودينية حتى تجاه أصحاب الميول الجنسية المثلية. وبالتالي، تعمل هذه الفضاءات على تجريد مجتمعات بكاملها من إنسانيتها، وتخلق شعوراً وهمياً بالتفوق، ومع وجود ردود من نفس الطبيعة يصبح هناك مبرر لرد إضافي يتطور إلى تحريض ينقلب بدوره إلى عنف في نهاية المطاف أو تأييد للعنف بأقل تقدير.

وبالطبع يمكن إيجاد مقطع الفيديو الذي بثه برينتون تارنت (28 عاماً) منفذ الهجوم الإرهابي، في الموقعين المذكورين ومواقع أخرى، رغم حذفه من قبل "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب". لكن حتى هذه المواقع تمتلئ بنقاشات حول الفيديو بوصفه حادثة إيجابية. وكان لافتاً أن تارنت وجه رسالة في مطلع بثه المباشر دعا فيها للاشتراك بقناة "PewDiePie" للألعاب الإلكترونية في "يوتيوب"، والتي رغم منظرها البريء تروج لأفكار سامة ومتطرفة، حسبما تشير وسائل إعلام مرموقة مثل "نيويورك تايمز".

ولا يقتصر الأمر على مواقع وصفحات باللغة الانجليزية، بل يمكن إيجادها في صفحات "فايسبوك" متطرفة بطبيعتها وتوالي النظام السوري مثل صفحة "جنود المسيح" التي تدعو لحرب صليبية جديدة في المنطقة وترفع صور فلاديمير بوتين كرمز للعالم القديم الذي يجب إحياؤه بحسب وصفها، والتي علقت على الموضوع بالقول أنه "مثلما تدين تدان".

والحال أن هناك تشابهاً كبيراً بين المواقع الجهادية عبر الإنترنت والمواقع اليمينية المتطرفة عبر الإنترنت. فالمستخدمون في كل منها متخفون تحت أسماء وهمية، وهم أشخاص منعزلون ويقضون ساعات بعيداً عن المجتمع، ويتخيلون وجود مؤامرة كبرى تستهدف وجودهم، ويتشاركون شكاً عميقاً في وسائل الإعلام بوصفها شريكة في المؤامرة، سواء كانت المؤامرة ضد الإسلام أو مؤامرة ضد الحضارة الأوروبية البيضاء. ويستند الطرفان لأحداث تاريخية قديمة جداً للشعور بالغضب وتبرير الفعل العنيف بوصفه انتقاماً مشروعاً لضحايا أبرياء، ماتوا ربما قبل قرون، ويضاف إلى ذلك ميل إلى تبسيط الأمور إلى حد السطحية بالتعامل مع أي قضية من منظور الخير المطلق والشر المطلق ضمن حيز الانطباعات المسبقة.

وفي "إيت شتان" تصدّر النقاش، الحديث عن العمل الإرهابي. ومن المسلي والخطير في الوقت نفسه، قراءة التعليقات التي تضمنت تشفياً وفرحاً بالعملية من جهة، وتحليلات مثل أن منفذ الهجوم هو إسلامي متنكر قام بالعملية من أجل أن يصبح لجماعات إسلامية متطرفة مسوغ لمزيد من الهجمات على الأوروبيين البيض، والدليل على ذلك وجوده لست أشهر في باكستان قبل فترة! أو أن الإعلام العالمي وقع في الفخ بوصفه الحادثة إرهاباً رغم أنه دفاع عن النفس، لأن ذلك الإعلام لا يعرف أن الحكومة الأسترالية مثلاً أصدرت تعميماً بمنع الحديث عن حالات الاغتصاب الجماعي التي يقوم بها المسلمون للنساء البيض في الأماكن العامة والحافلات، وبالتالي كان تارنت خائفاً على زوجته فقط حتى عندما سكن في نيوزيلندا!

النقاشات السابقة ليست نوعاً من المزاح بل هي نوع من المعلومات التي تتداول في تلك الزوايا من الإنترنت، ويتم تدعيمها بـ"مصادر" وهي مواقع ومدونات لأشخاص مجهولين تنشر تلك الترهات على أنها الحقائق الخفية التي لا تريد الحكومات من الناس تصديقها لأنها شريكة في المؤامرة.. والمضحك أكثر أن تلك الحكومات يهودية حكماً وتريد الانتقام من المسيحيين الأوروبين بسبب المحرقة وتتحالف مع الإرهاب الإسلامي لهذا الغرض حصراً.

وبالتأكيد تشجع السياسات القائمة تلك الأفكار بطريقة أو بأخرى، فنشوء تنظيم "داعش" ودعايته المفرطة التي انتشرت بشكل صادم، خلقت رد فعل بصورة خوف مَرَضي متزايد تجاه المسلمين ككل، كما أن الدول التي تقول أنها تمثل الإسلام مثل السعودية أو إيران لا تقل عنفية بطبيعة الحال. ثم باتت موجة اللجوء نحو أوروبا، أداة فعالة في أيدي الأحزاب المتطرفة للوصول إلى السلطة عبر التلاعب بعامل الخوف بدلاً من التخفيف منه. ولا يختلف الأمر هنا بين مارين لوبان في فرنسا، أو دونالد ترامب في الولايات المتحدة، أو حتى النائب الأسترالي فرازر أنينغ الذي أصدر بياناً صادماً قال فيه أن مسؤولية الهجوم تقع على برنامج الهجرة نفسه.

ورغم أن كثيراً من النقاط التي تضمنها بيان أنينغ تحتمل نقاشاً أكاديمياً وصحافياً أعمق مثل الحديث عن جذور العنف في الإسلام، إلا أن استخدامها من طرفه بهذه الطريقة وفي هذا التوقيت يعطي لمحة عن كيفية استغلال السياسيين الشعبويين للأحداث والمشاعر لتحقيق غايات سياسية. فأنينغ كان بطلاً في "فورتشان" و"إيت تشان" مثلاً، ومضرباً للمثل بوصفه رجلاً مبدئياً رفض الخضوع لسلطة الإعلام الكاذب الذي يريد خداع الناس، وتصبح المقالات المنتقدة له بالضرورة مقالات تهدف لتشويه سمعته كرجل شريف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها