السبت 2019/11/09

آخر تحديث: 16:49 (بيروت)

السترات الصفر الفرنسية والثورة اللبنانية.. بنات العمّ؟

السبت 2019/11/09
السترات الصفر الفرنسية والثورة اللبنانية.. بنات العمّ؟
اعتصام وسط بيروت (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
في معرض تغطيتها للثورة في لبنان، ما زال يحلو للوسائل الإعلامية الفرنسية، من حين لآخر، التساؤل عما إذا كانت تجوز مقارنة ما يجري بأحداث شهدتها فرنسا. الغرض من هذا الربط هو تسهيل عملية استيعاب المشهد اللبناني في الوسط الفرنسي. 

المقارنة الأبرز هي مع حركة السترات الصفر لاعتبارات عديدة أهمها أن السترات الصفر تكبر الثورة اللبنانية بـ11 شهراً فقط ما يجعلها، حتى اللحظة، الحركة المطلبية الفرنسية الأصغر سناً. حركة ستطفئ شمعتها الأولى في 17 تشرين الثاني/نوفمبر، أي مع انقضاء الشهر الأول للثورة في لبنان.

لكن السياق الزمني لا يفسر وحده هذه المقارنة، فبعيداً من الاختلاف بين البيئتين الفرنسية واللبنانية، يتيح التمعن في سياق الأحداث التوقف عند عدد من القواسم المشتركة.

أول هذه القواسم هو العامل المسبب: صحيح أن كيل الفرنسيين طفح مع زيادة الأسعار على المحروقات، فيما ثار اللبنانيون عقب الإعلان عن فرض ضريبة على مكالمات الواتساب، لكن وفي الحالتين تعدت المسألة هذا الاطار الضيق لتتحول إلى تعبير عن واقع معيشي مزرٍ. مجرد استمرار المظاهرات، حتى بعد تراجع كل من الحكومتين الفرنسية واللبنانية، عن قراراها، هو تعبيرٌ عن تأزم اجتماعي متراكم.

ورغم البُعد الاجتماعي الحاضر بكثافة، فإن المشهدين اللبناني والفرنسي ينطويان أيضاً على أفق سياسي مسدود تجلى في الدور المتقدم الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط في الدعوات للتظاهر بل أيضا حيال توثيق ما يجري على الأرض.

ففي كلا البلدين، فقد اللبنانيون والفرنسيون الثقة في مؤسساتهم الرسمية لا سيما ممثليهم في السلطة التشريعية، وأرادوا إيصال صوتهم بشكل مباشر وبلا عوائق. غايتهم كانت نقل الصورة من أرض الحدث من دون وسيط لا سيما مع تصاعد الاتهامات الموجهة للوسائل الإعلامية (بالجملة والمفرق)، كونها جزءًا من المنظومة السياسية المؤثرة في تكوين الرأي العام.

بالتوازي، اكتسبت هذه المنصات أهمية لناحية تعزيز التواصل بين المتظاهرين: فكلما تم تفريق الحشود، يكفي بعض التغريدات أو المنشورات لإعادة جمع الأفراد في المكان نفسه. من هنا، برزت أهمية وسائل التواصل الرقمي الذي أتاح للأفراد تنسيق خطواتهم افتراضياً.

عامل آخر اجتمع عليه المشهدان اللبناني والفرنسي تمثل في الإصرار على عفوية التحركات ورفض بلورة إطار سياسي - تنظيمي يستوعب حالة الشارع، هذا كان الحال في فرنسا ولا زال حتى الساعة المزاج اللبناني. الفارق أن القوى السياسية الفرنسية كانت تُعدّ العدّة للانتخابات الأوروبية ما دفع بعدد من منظمي حركة "السترات الصفر" إلى طرح وجوب خوض هذه الانتخابات من خلال لائحة تمثلهم. لكنهم فشلوا في كسب تأييد الشارع، وتجلى ذلك بعزوف انغريد لوفاسور عن خوض الانتخابات بعد طردها من احدى المظاهرات واتهامها بالتسلق. صحيح أن المشهد اللبناني لم يبلغ هذا المستوى من محاولة التأطير، لكن اللبنانيين ما زالوا، لغاية اللحظة، متمسكين بعفوية ثورتهم، فاتحين المجال للمبادرات الفردية اللامركزية.

من جهة أخرى، تناقلت تلفزيونات العالم عمليات التخريب في جادة الشانزليزيه كما المواجهات مع الشرطة. لم تكن الصورة على هذا النحو في لبنان، فالسمة الأبرز في هذا المجال كانت قطع الطرق، ثم محاولة فتحها، إلا أن الأمر أثار الجدل نفسه في البلدين: جدوى وشرعية مثل هذه الأعمال لتحقيق المطالب والضغط على الحكومات.

أبرز ما طبع هذين المشهدين في لبنان وفرنسا، كان الإصرار على استقلالية التحركات والتحرر من أي قيود حزبية، هذا المسعى لم يحُل دون توجيه اتهامات بالتسييس وأن قوى حزبية تضطلع بدور المحرك. المفارقة أنه في فرنسا، أخذت الاتهامات منحى أكثر جدياً، فكانت تُوجّه إلى جهات واضحة من اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار، ولإثبات هذه التهم انتشرت فيديوهات تظهر ممارسات عنصرية أو تسلط الضوء على حزبيين مشاركين في التظاهرات ما جعلها تكتسب مصداقية أكثر من لبنان، إذ غالباً ما قوبلت اتهامات التسييس تلك بالسخرية. 

تثبت هذه النقطة أنه مثلما كانت هناك قواسم مشتركة، هناك أيضاً فوارق بين المشهدين.

فالصورة العامة التي خرجت من لبنان دلّت على أن الشرائح الاجتماعية كافة كانت حاضرة في الثورة، بخلفياتها الاجتماعية والمناطقية المتعددة. لكن في فرنسا، ظلت المشاركة في حركة "السترات الصفر"، مرتبطة بشريحة معينة من الفرنسيين، أقله على المستوى الإعلامي، وقيل أن المحرك الأبرز للاحتجاجات هم سكان المناطق الريفية المتطرفة البعيدة من المدن، مناطق ليس فيها نقل عام منظم وبالتالي سكانها أكثر ارتباطاً بالسيارات في تنقلاتهم. كما أشارت إحصاءات نشرتها الصحف الفرنسية أن هؤلاء المتظاهرين ليسوا من حملة الشهادات العليا أو أنهم من غير الميسورين مادياً، بخلاف الحال في لبنان حيث كان هناك تشديد على مدى التنوع، على مختلف المستويات، تنوع هو سمة وركيزة الثورة.

من جانب آخر، دلّ حجم الغليان اللبناني على أن التحديات في هذا البلد أكثر جذرية من فرنسا، إذ يواجه اللبنانيون منظومة متشعبة تبدأ من المؤسسات الدستورية، ولا تنتهي بالصروح التعليمية والقطاع المصرفي إلى جانب المبادرة إلى خلق بدائل نقابية، حتى محاولات قمع التجمعات قامت بها مجموعة حزبية لا تمت بصلة الى مفهوم "احتكار الدولة للعنف". أما في فرنسا، فقد تجسد الخصم في شخص أشير إليه بالإصبع: إيمانويل ماكرون، فكان الصِّدام أقرب إلى أزمة مع الحكومة وليس مع المنظومة، أو أقله لم يظهر بالحدة نفسها التي ظهر الأمر فيها في لبنان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها