الأربعاء 2019/10/09

آخر تحديث: 16:13 (بيروت)

"الجاسوس".. رداءة تُماثِل الرواية السورية عن كوهين

الأربعاء 2019/10/09
"الجاسوس".. رداءة تُماثِل الرواية السورية عن كوهين
من مسلسل "نتفليكس"
increase حجم الخط decrease
تعرض منصة "نتفليكس" مسلسلها الجديد "The spy" الجاسوس (تأليف وإخراج: جدعون راف وماكس بيري)، وهو يحكي قصة الجاسوس إيلي كوهين الذي نشط في سوريا بين أعوام 1962 و1965، ثم تمّ كشفه وإعدامه في ساحة المرجة في دمشق. 


لا جديد يُمكن ذكره حول قصة المسلسل القصير (ست حلقات) ولا شيء يستحقّ الالتفات إليه لجهة الصنعة الفنّية أو السرد الحكائي، حيث حاول صانعوه بناء طريقة سرد خاصة بأن يمزجوا الأزمنة مثلاً، لكنّهم تراجعوا بسرعة واكتفوا بالبداية من لحظة استدعاء حاخام دمشق من أجل تنفيذ حكم الإعدام، ثمّ مضوا في الحكاية بسرد زمني عادي ومتسلسل مع تنويع قليل على لحظات ما قبل مداهمة بيت الجاسوس، وتقطيع بين هذه اللحظات ومشاهد لزوجته في تل أبيب أو له وهو يُرسل معلوماته الأخيرة. لكنّ السرد كان عادياً ولا مفاجآت أو تنويعات تشويقية برعت فيها مسلسلات أخرى.

وقد اعتمد المسلسل على كتاب "الجاسوس القادم من إسرائيل" للمؤلفين الفرنسيين أوري دان ويشياهو بن بورات، وتصدّرت شارته عبارة "مستوحى من أحداث حقيقية"، رغم أن أرملته وابنته ليستا سعيدتين بالمسلسل، بل أبدتا الأسف حيال الكثير من المفاصل المفتقرة إلى الدقة التاريخية من وجهة نظرهما.

والمسلسل يُكرّر الرواية الإسرائيلية ذاتها عن لقاء كوهين بأمين الحافظ في الأرجنتين، وهو أمر تنفيه الوقائع التاريخية، حيث أنّ الحافظ وصل إلى الأرجنتين في الوقت نفسه الذي وصل فيه كوهين إلى دمشق، ممّا يدلّ على أنّ صانعي العمل اعتمدوا على رواية واحدة للحدث، ويبدو أنّهم لم يُكلّفوا أنفسهم عناء البحث والعودة إلى المراجع التاريخية لتدقيق أحداثهم، ربّما لأنهم كتبوا كلمة "مستوحى" التي اعتبروا أنّها تفتح لهم المجال للتغيير حتى في الوقائع التاريخية والقفز فوق الحقائق في سبيل تقديم عمل درامي مشوّق ومؤثّر من وجهة نظرهم. لكنّهم في النهاية قدّموا عملاً باهتاً درامياً، يفتقر إلى الحبكة المشوّقة وإلى الأسرار أو المواقف الدرامية القويّة، أو حتّى إلى التشويق و"الأكشن" الذي يُميّز عادةً هذا النوع من الأعمال.

وهناك العديد من الأخطاء التي لا يُمكن تصديقها وتعود في معظمها إلى جهل صانعي العمل بالبيئة التي يدور فيها الحدث، كذلك إلى عدم اجتهادهم في تقديم صورة تقترب من الحقيقة عن تلك الفترة الزمنية والمنطقة التي تدور فيها الأحداث. يقول أحد ضبّاط الموساد: ينام السوريون على رئيس ويستيقظون ليسمعوا في الإذاعة أنّه قد أصبح لديهم رئيس جديد! يقول هذا الكلام في العام 1959، وفي حينه لم تكن الجمهورية العربية السورية موجودة، بل كانت جزءاً من الجمهورية العربية المتحّدة (الوحدة مع مصر)، وكان قد مرّ على آخر انقلاب فيها أكثر من خمس سنوات. هي جملة تداولتها الصحافة العالمية وحتى العربية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات عن سوريا، لكنّها ليست منطقية في العام 1959 خاصةً أنّها تصدر عن ضابط موساد يُفترَض أنه يُدرّب جاسوساً للعمل في سوريا!

كذلك، في المسلسل، يسكن كوهين في حيّ أبي رمّانة الشهير، لكنّه عندما ينزل من بيته، نرى في الشارع نفسه بائعين وبسطات خضار وازدحام لا يُمكن أن يشهده هذا الحيّ ولا في أي فترة زمنية، وبين البائعين فتى يُنادي على النعنع لم يُغيّر مكانه ولا ملابسه ولا نداءه طوال أحداث المسلسل التي يُفترض أنّها امتدّت ما يقرب من ثلاث سنوات!

وتبدو جبهة الجولان في المسلسل غريبة جدّاً، فهي في الجانب السوريّ مليئة بالتحصينات والآليات العسكرية، بينما في الجانب الإسرائيلي ينتشر الفلاحون الأبرياء الذين يقطفون موسم البندورة وأطفالهم يلعبون حولهم ونساؤهم ينشرن الغسيل قرب الشريط الشائك! كذلك ترى فتيات بلباس البحر يتمشّين في الشارع الترابي المحاذي لخطّ التماس، وهؤلاء هم الذين تقصفهم مدفعية الجيش السوري العام 1959!

طبعاً كل هذه أمور لا يُمكن تصديقها، فالتاريخ والتقارير الصحافية والمنطق يؤكّد أنّ إسرائيل في ذلك الوقت كانت تُصدّر للعالم أنّها دولة صغيرة تُريد أن تعيش بسلام وسط جيران أشرار لذلك هي كانت تستورد السلاح وتبني خطوط الدفاع على حدودها خاصة مع "الجمهورية العربية المتّحدة 1958 ـ 1961" شمالاً وجنوباً. هذه المغالطات التي يُقدّمها المسلسل هل هي أكاذيب مقصودة، من أجل بروباغندا ما، وإن خرجت سخيفة في عيون العارفين بتلك التفاصيل؟ أم هو جهل وعدم اجتهاد في توثيق الحدث؟

يبدو أنّ صنّاع العمل قد انجرّوا وراء السبب الذي افترضوه لضرورة زرع جاسوس في سوريا وهو وقف الاعتداءات المتكرّرة على المدنيين الإسرائيليين، فتورّطوا في طرح هذه الصورة الفانتازية الغريبة للحدود الشمالية لإسرائيل في ذلك الوقت، ثم استمرّوا في تقديم حكاية كوهين محاولين تصويره بطلاً أسطورياً يواجه أعداء أقوياء، لكنّ العنجهية الإسرائيلية تأبى إلاّ أن تُظهر هؤلاء الأعداء في حالة من التخبّط والغباء بحيث يسهل اختراقها.

لكن ما هي القصة الحقيقية لإيلي كوهين؟ ما هو مدى اختراقه للشخصيات السورية في ذلك الوقت؟ وما هي الأفعال الحاسمة والمعلومات الخطيرة التي استطاع الحصول عليها؟ لا يُمكن أن نجد جواباً لهذه الأسئلة. فالمصادر في الجهة الأخرى شديدة الفقر والاختصار، بحيث لم يبقَ لمن يريد أن يعرف إلا "الرواية الإسرائيلية"، رغم ما يشوبها من أكاذيب ومبالغات، لأنّ الجانب العربيّ بعد مرور 54 عاماً على إعدام الجاسوس لم يُقدّم رواية متكاملة حول الموضوع.

سيستمرّ الغرب والإسرائيليون في تصدير روايتهم حول كل مفاصل تاريخنا، من دون أن يجدوا من يتصدّى بالحقائق لكشف كذبهم، وربّما هم يتساهلون ولا يجتهدون للتوثيق في أعمالهم الفنّية عنّا لأنّهم يعلمون أنّ الجانب الآخر لا يُريد ولا يهمّه الردّ أو تقديم الحقيقة. فكل هؤلاء الذين يتكلمون عن أولوية ومركزية قضية احتلال فلسطين وتهجير شعبها هم في حقيقة الأمر لا يكترثون، بل تَراهم ينجرفون بعيداً جداً عن هذه القضية التي باتت بالنسبة إليهم شعارات تتكرّر مُفرغة من المعنى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها