الخميس 2019/01/31

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

تربّين قطة.. وأنتِ لاجئة؟!

الخميس 2019/01/31
تربّين قطة.. وأنتِ لاجئة؟!
"جوجو" الذي خسرته
increase حجم الخط decrease
تأخرتُ في المشي.. بلغت الثانية من العمر ولم أمشِ كباقي الأطفال. خوف أمي دفعها لاستشارة العديد من الأطباء الذين أكدوا جميعاً أني لا أعاني مشاكل فيزيولوجية في جسدي تحول بيني وبين خطواتي الأولى، ورجحوا أن يكون تأخري لسبب نفسي، وهو خوفي من السقوط. فحاولت أمي إغرائي بكل الطرق للمشي بشكل مستقل، من دون عربة ومن دون أن أمسك يدها، إلا أنها عجزت. حتى كتب لي أن تكون أولى خطواتي برفقة قطة، ففي بيت جارتنا حملتُ قطتها السوداء ومشيت لوحدي، ومنذ ذلك اليوم تسرب حب القطط إلى قلبي.
اعتدت أن اتعرض بشكل دوري لانتقادات كثيرة وحادة بسبب تربيتي القطط في منزلي. فأهلي يرجعون ذلك إلى خلل واضطراب نفسيّ في شخصيتي. أما أصدقائي فلديهم نظرية أخرى، وهي أني أفرغ شحناتي العاطفية في تربية القطط والاهتمام بها، وذلك يعود لعدم إنجابي للأطفال. والحقيقة أن تلك النظرية تضحكني أكثر من كونها تغضبني. لكني، منذ مدة، تعرضت لـ"نظرية" جديدة أثناء زيارتي عدداً من المراكز البيطرية في بيروت لعلاج هرّي المريض "جوجو"، وحملت تلك الانتقادات طابعاً عنصرياً لا لشيء سوى لأني.. لاجئة سورية وأربّي القطط.

في البداية، استُقبلت في تلك العيادات بشكل عادي، حيث لا حاجة لأوراق ثبوتية تفضح جنسيتي، لكن حواري الأول مع أي طبيب كفيل بكشفها. وهنا، تتخذ أسئلة البيطري بُعداً آخر، فيسأل: "البسين تبعك من الشام؟"، "أنتي عايشة هون أو جاية زيارة"؟  وفي إحدى المرات علّق طبيب بيطري خلال إحدى زياراتي لعيادته: "مو أحسنلك تلمي لاجىء سوري من الطريق بدل ما تصرفي مصرياتك عالبسينات؟". صُدمت من كلامه وبقيت عاجزة عن الرد، واكتفيت بابتسامة فارغة. 

حينها أمضيت الليل وأنا أفكر: هل كان كلامه نابعاً من حسه الإنساني المفرط؟ أم من عنصرية مبطنة؟ هل يقصد "نصحي" كوني لاجئة ويجب أن تتناسب أولوياتي مع  الصورة النمطية عني في رأسه، إذ بدت تربيتي للحيوانات من خارج تلك الصورة؟

مؤخراً، ازدادت حالة "جوجو" سوءاً، ما دفعني إلى نقله إلى مستشفى آخر. هناك، وفيما كان يعاني ضيقاً حاداً في التنفس، رفضت البيطرية أن تقدم له الإسعافات الأولية من أوكسجين لمساعدته، بحجة أنها تريد أن تكشف قبل ذلك سبب ضيق تنفسه، وتعالج السبب الرئيسي للمشكلة، وطلبت مني تحاليل دم تبلغ تكلفتها 300 دولار. كنت عاجزة بالفعل عن دفع المبلغ وصارحتها بذلك، لتخبرني بأن أبقي قطي في المستشفى وأنها ستشرف هي شخصياً على علاجه من دون إجراء التحاليل، كنوع من التعاطف الإنساني. 

تركته لديها، وفور وصولي إلى المنزل عاودت الاتصال بالمستشفى للاطمئنان على "جوجو"، إلا أن الطبيبة كانت مشغولة وأخبرتني السكرتيرة بأنها ستعاود الاتصال بي حالما تملك الوقت. وبعد أربع ساعات، أرسلت لي الطبيبة تسجيلاً صوتياً يفيد بأن القط يحتضر، وتوبخني بأني السبب في ذلك، فإن كنت لا أملك المال الكافي ووضعي سيء في هذا البلد فلماذا أربّي القطط؟! وحمّلتني مسؤولية احتضار الهرّ، وذلك لعدم قدرتي المادية على إجراء فحوص الدم الخاصة به، وبرّأت نفسها من تقصيرها أمام حيوان بريء تركته يموت.

ركضت لنقل "جوجو" إلى مستشفى آخر على أمل إنقاذ حياته، رأيته مرمياً في قفص في مكان بارد تحيطه الكلاب، ولم تُقدَّم له أي إسعافات تذكر. دفعتُ الحساب وحملتُ هرّي البارد بلا نقاش إلى مستشفى أخر، وعند الباب سمعت صوت البيطرية تقول: "ديري بالك عليه". فحتى تلك اللحظة، كانت لا تزال تزاود في الإنسانية.

أخذت "جوجو" من غربي بيروت إلى شرقها، لأصل إلى مستشفى يزوّده بالأوكسجين، إلا أنه فارق الحياة بعد ساعات قليلة، وأكد لي البيطري هناك بأنه توفي بسبب الانخفاض الشديد في حرارته وبسبب التأخر في إسعافه وإعطائه الأوكسجين ما أدى إلى اختناقه. ووسط دموعي، سألني البيطري: "أنت بتدفني الجثة ولا نحنا نتصرف"؟ وأكد لي أنه من الأفضل أن يقوم هو بدفن الجثة، فكَوني سورية، سيعرضني ذلك لمساءلة قانونية ومحاسبة في حال ضبطي وأنا أقوم بدفنه.

بعد "جوجو" أصبت بالإحباط، وبدأت أفكر: هل فعلاً لا يحق لي كلاجئة أن أربّي القطط؟ إحباطي دفعني إلى عرض قططي كلها للتبني، لشعوري بأنها ستكون بخير لدى عائلات أخرى لا تحمل ظرف لجوئي. حينها اتصلت بمنظمة لتتولى أمر التبني، فأرسلوا طبيبة بيطرية لرؤية القطط واستكمال المعلومات عنها والتقاط صور لها. سألَتني إن كنت قد أجريت عملية إخصاء للقطط، وأجبتها بالنفي. فارتسمت على وجهها علامات المفاجأة والاشمئزاز، لتصرخ فيّ: "أنو انا ما عم أفهم كيف بتتركي بسيناتك هيك"؟ وأسمَعَتني محاضرة عن ضرورة إخصاء القطط، وعاملتني كأني جاهلة. 

وبينما كانت تتحدث، راح عقلي ينفصل عنها، لأفكر في المنظمات "الإنسانية" التي تزور اللاجئين السوريين في المخيمات وتحمّلهم مسؤولية ما يحدث، بسبب جهلهم وإنجابهم للأطفال في هذا الظرف. وربطت ذلك بكلام البيطرية. وخطر لي أنه من الممكن أن تقوم هذه المنظمات بحملة لإخصاء اللاجئين، كما تقوم المنظمات المعنية بالحيوانات في لبنان بحملات لإخصاء القطط الشارة في الشوارع.

وبعد دقائق من الردح والهجوم غير المبرر، سألَتني الطبيبة المنتدبة إن كنتُ قد اقتنعتُ بكلامها، فأجبتها بالنفي، فقالت: "طبيعي ما رح تفهمي، لأنك سورية، لازم تفهمي أنو إذا البيسنة ما بتخصيها، ممكن يتاجروا بأولادها"! لكنني رفضت أن أخصي قططي، لا سيما أن إحداهن كانت حبلى، وأرادت الطبيبة أن أجري لها عملية إجهاض، وهو الأمر الذي حال دون إتمام الصفقة. 

وفي نهاية الحديث، أعطتني الطبيبة "كارت" محلها كي أزورها في حال غيرت رأيي وقررت أن أجري العمليات اللازمة لقططي لتصبح جاهزة للتبني. ومن خلال الكارت، تبين أن الطبيبة تملك متجراً لبيع الحيوانات؛ لتضعني هذه المفارقة أمام الكثير من الأسئلة عمّن يشرع قوانين الإتجار بالحيوانات الأليفة، وعن أهداف تلك التشريعات، وتضارب المصالح.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها