الإثنين 2019/01/21

آخر تحديث: 15:39 (بيروت)

المقسم 111: اللبنانيون في تذمرهم ومزحاتهم.. ووحدتهم

الإثنين 2019/01/21
المقسم 111: اللبنانيون في تذمرهم ومزحاتهم.. ووحدتهم
increase حجم الخط decrease
سنة ونيف أمضيتها في قسم خدمة الزبائن التابع لشركة Touch للاتصالات الخلوية، أجدها اليوم إحدى أكثر الفترات إرهاقاً وغرابة بين كافة المهن التي زاولتها سابقاً. كنت لا أزال طالباً جامعياً، أكافح للتوفيق بين دوامي في الجامعة وساعات عملي، وأبحث عن أي مدخول يساعدني على الإستمرار.

الخيارات لم تكن كثيرة بطبيعة الحال، وقد فضلت العمل في مجال لا يتطلب جهداً جسدياً أو بروتوكولاً يتحكم في مَلبسي والطريقة التي يجب أن أقف وأتصرف فيها خلال فترة العمل، كما هو الحال في المطاعم أو محلات الثياب وغيرها من المهن المتاحة لطلاب الجامعات، والتي لن تخلو أيضاً من المشاكل مع الموظفين الآخرين وحساسيات العلاقات التراتبية والتنافسية بينهم.
لكن ما كان يفترض أن أقلق منه في هذا النوع من المهن "الهاتفية"، لا علاقة له بجو العمل أو علاقات السلطة، بل يكمن في العالم الواقع في الناحية الأخرى من الهاتف. يحتل هذا العالم أذنيك وصوتك بشكل مكثف خلال وقت العمل، ويتطلب النفاذ منه، بعد انتهاء الدوام، ساعات من الصمت والإمساك عن الكلام مع أحد، لعل الرأس يتمكن من تخصيص مساحات جديدة تستوعب كلاماً جديداً. 

يتكون هذا العالم من عدد كبير من الأشخاص، يصل عددهم إلى أكثر من مئة يومياً، هي حصتي من آلاف الإتصالات على الرقم 111 الخاص بخطوط "ام تي سي تاتش"، والتي تتقاسم مع شركة "ألفا" السوق اللبناني بأكمله. وبسبب هذا الإحتكار، تجد أن زبائن الشركة هم من الشرائح والطبقات والطوائف كافة، ولذلك يمكن لموظف خدمة الزبائن التعرف خلال أيام من العمل، على مختلف اللهجات الموجودة في البلاد! 

لكن رفاهية التركيز على لهجات المتصلين وأصواتهم، تتلاشى عند حدوث مشكلة في الشبكة أو الإنترنت. حينها يصير الجو متشنجاً، ويزول، بالنسبة إليك، الإختلاف بين المتصلين. يصبحون جميعاً شخصاً متذمراً واحداً، لا يتوقف عن السؤال عما يحدث. وأنت بدورك تتحول رجلاً آلياً يعيد الإجابة نفسها بشكل متعاقب، وبالنبرة الناشفة نفسها، لحماية نفسك من العنف اللفظي الذي لا بد أن تتعرض له، وقد يصل أحياناً إلى حد تحميلك مسؤولية جميع مشاكل الفساد في الشركة وفي المؤسسات اللبنانية الأخرى. 

في الأحوال العادية تتمحور المكالمات حول المواضيع ذاتها: رمز الدخول إلى الخط PUK، الإنترنت، تجميد الخط وتحويله، الفواتير، أسعار البطاقات والخطوط الجديدة، بالإضافة إلى الأسئلة المعتادة عن الخدمات التي تقدمها الشركة وعددها بالعشرات. نجبر على حفظها في تدريب يمتد خمسة أيام، قبل البدء رسمياً بالعمل. 


ثم تأتي حصة جديدة من المكالمات، بهدف التسلية، وأبطالها غالباً أطفال ومراهقون من القرى، يشعرون بأنهم يتمردون على السلطات والقوانين من خلال ما يظنونه مغامرة "استلام" الموظف. كنت أتخيلهم مجموعة متحلقة حول الهاتف، يكتمون ضحكاتهم بينما يتكفل أحدهم بالعملية التي لا تلبث أن تفشل عند أول مفترق طرق، بعد انفجار أحدهم بالضحك. 

طبعاً المستوى يختلف من مجموعة إلى أخرى. فهناك "متخصصون" يطرحون أسئلة مشروعة، لكن مفخخة، يمكن أن تنطلي على الموظفين الجدد، لأنها لا تعطي سبباً واضحاً لإقفال الخط. وهناك زبائن دائمون يحضّرون سيناريوهات كاملة قبل الإتصال بالشركة، وأحد هؤلاء أصبح نجماً في السابق بعد تناقل تسجيلاته بكثرة بين اللبنانيين، قبل أن تطفئه محاولة برنامج ساخر لاستثماره. 


تترافق المكالمات مع أصوات محيطة، تعطي فكرة عن الأمكنة التي يتواجد فيها المتكلمون: تلفزيون وأطفال في غرفة جلوس عائلية، أصوات معالق وصحون في مطعم، طريق عام وسيارات، صوت غناء يأتي من حفلة قريبة، ومتصل يبدو كأنه يحاول تفادي موقف ما بالإنشغال بمكالمة طارئة، وتجده يطرح أسئلة عشوائية من دون الإستماع للإجابات! بيئات صوتية لا تنتهي، تقابلها صور متخيلة عنها، تزداد تفصيلاً كلما طالت المكالمة. 

تبقى المكالمات المفضلة بالنسبة إلي، تلك التي يخيم عليها الصمت، ويبدو المتحدثون فيها بعيدين من أي نشاط بشري. أشخاص منزوون، أو منعزلون، يطرحون أسئلة عشوائية، فقط للتواصل مع أحد ما، او لتخطي الوحدة التي يمرون بها. يبدأ الإتصال غالباً بسؤال تقني يتطلب شرحاً لمدة معينة، ثم ينتقل بصوت خافت إلى أسئلة أخرى تتطلب وقتاً طويلاً أيضاً، كطلب مساعدة في مشكلة على الهاتف، حيث ينهمك الموظف في محاولة لحل المشكلة عبر طلب مجموعة خطوات على المتصل أن يقوم بها بشكل مواز.

لا يريد الوحيدون سوى كلام مخصص لهم وحدهم، وبعضاً من الإهتمام الإفتراضي من أشخاص إفتراضيين. فهمت بفضلهم ما يمكن للصوت أن يفعله، ومن دون أن يكون له أي طابع جنسي أو مضمون يتخطى المواضيع التقنية المعتادة، ما يذكر بفيديوهات ASMR (تنميل في فروة الرأس يأتي استجابة لمحفزات صوتية أو بصرية)، والتي يتمحور بعضها حول مكالمات خدمة الزبائن، وتلعب أنماط أخرى منه على فكرة الإهتمام. على سبيل المثال، المقاطع التي يمثل فيها أحدهم دور طبيب يقوم بفحص المشاهد، حيث يخصص وقتاً طويلاً للأذنين، مستعملاً ميكروفوناً ثنائيّ الأبعاد لإعطاء تجربة سمعية واقعية.

المهم في هذه المكالمات والذي يحفز نشوة الـASMR، هو النبرة الهادئة والناعمة قليلاً التي يتكلم بها المتصل، والتي، في حال استجاب لها الموظف، ينسخها حين يتكلم بشكل لا واع، ما يجعل شعور ASMR مشتركاً بين الطرفين، يفعّل نفسه بنفسه عبر الكلام والإستماع، في عملية تواصلية لا تحدث في العادة سوى صدفة وفي مكالمات عابرة. ومن النادر أن تجد أشخاصاً يبحثون عنها، بشكل واع، كما هو الحال مع أصدقائنا الوحيدين، الذين كانوا يقدمون لنا فرصة غرائبية للراحة والإسترخاء من ضغط المتصلين "غير الوحيدين" الذي لا يتوقف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها