الثلاثاء 2019/02/12

آخر تحديث: 17:58 (بيروت)

ساحة عبد الناصر أم ماكدونالدز؟

الثلاثاء 2019/02/12
ساحة عبد الناصر أم ماكدونالدز؟
increase حجم الخط decrease
"على عين المريسة، ماكدونالدز"، قلتُ لأول سائق سرفيس، لم يتوقف. قلت للسيارة التالية "ماكدونالدز عين المريسة"، فأومأ برأسه وتوقف. صعدت إلى المقعد الخلفي، وسمعتُ راكب المقعد الأمامي يستنكر وكأنه يناجي نفسه "ما عاد حدن يقول تمثال عبدالناصر". 
وأمام صمت السائق الذي لم يشاركه الشجب والاستهجان، أضاف الراكب: "ماكدونالدز! ما عاد حدن سامع بعبدالناصر". واستمر الصمت المطبق في السيارة، فختم الراكب كلامه بالقول "الله يرحمك يا عبدالناصر"، وكأنه يعزي نفسه بفقيد خاص. 

حاولتُ أن أشاركه حديثه، لكنه تجاهل كلامي وواصل مناجاته نفسه وترحّمه على فقيده وهو يهمّ بالنزول من السيارة. أردتُ أن أخفف عنه، لكنني لم أنبس غير بكلمتين: "بس هوي..." وحين لاحظت أني أتكلم مع نفسي، التزمتُ الصمت. وددتُ أن أخبره بأن صهر عبدالناصر نفسه، جمال مروان، وهو يحمل اسم عمّه والد زوجته تيمناً به على الأرجح، هو صاحب محطة "ميلودي" الموسيقية. وأحسِب أني أردت لفت انتباهه الى أن عصر ماكدونالدز والفضائيات والتلفزيون، صار جزءاً مِن عائلة مَن يترحم عليه. ورغم أن الفرق بين الصهر والقائد، كبيرٌ، إلا أن كلاً منهما يأتي من عالم الصوت العابر للأثير والبلدان، الأول من عالم الفضائيات الموسيقية التلفزيونية والثاني من عالم الراديو. ولطالما تساءل محللون غربيون عن سحر ناصر، كما يسميه الفرنسيون، وقدرته على سلب ملايين العرب ألبابهم، وكأنه صاحب قدرة غيبية.
وبدا أن الحادثة الصغيرة هذه تشير الى واقع أوسع: رمز من رموز الأمس القريب، طواه النسيان وصار رمزاً شخصياً، رغم أنه كان مدار انقسام عميق في المجتمع اللبناني أسوة بالمصري، وكان تأييد سياسته وراء أزمة/حرب 1958 في لبنان. وكان الاستقطاب حوله حاداً، ليس بين المسيحيين والمسلمين فحسب، بل بين المسلمين أنفسهم. كان المرحوم يجازي النقد بالقتل، وسعيد الحظ باعتقال مديد. ويُقال أن عهده كان باكورة الأنظمة الأمنية في المنطقة، وفي زمن "الوحدة" تفشت العدوى الأمنية من مصر الى سوريا.

في منزلنا، قلما دار حديث والديّ عن الحرب الدائرة في ديارنا في الثمانينات ومطلع التسعينات، واقتصر شرحهما ما يجري، أي القتال، على أنه يدور بين زعران أو مسلحين.

وفي عُرف كثير من الأسر البيروتية واللبنانية، المسلّح صنو الأزعر، وليس البطل ولا الشهم. لكن المرحوم والدي خرج عن صمته ذات يوم، وقال أن القتل كان مصير من ينتقد عبدالناصر. 

أما الماكدونالدز، فغالباً ما يكون إشارةً على انقضاء المراحل أو الزمن. وأذكر أن مراسل صحيفة عربية كتب، حين زار موسكو في 2002 أو مطلع 2003 ، "أين ذهب الاتحاد السوفياتي؟".. حين وجد ماكدونالدز في مطار العاصمة السوفياتية السابقة. 

ومحرك "غوغل" يرشد زائر موسكو الى مطاعم المآكل السريعة التي تنتظره في المطار الروسي، ومنها "برغر كينغ" و"كنتاكي تشيكن". والحق أن الأبواب لا تزال موصدة أمام "ماكدونالدز" في سوريا وبعض دول "محور الشر"، على ما سماها الرئيس الاميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، ومنها إيران وكوريا الشمالية. ويبدو أن حنين بعض الإيرانيين الى برغر الشيطان الأكبر، أي ماكدونالدز الذي طُرد من بلادهم إثر الثورة الإسلامية في 1979، غلبهم. لذا، برزت سياحة الماكدونالدز والكنتاكي. 

ففي العام 2000، وطوال أعوام نشطت خلالها حركة السياحة البرية من إيران الى لبنان عبر سوريا (وتوقفت الحركة هذه مع اندلاع الثورة السورية في 2011)، كان المتجول في بيروت يرى باصات "بولمان" كبيرة ركابها من الايرانيين، متوقفة أمام الكنتاكي أو الماكدونالدز. والتشادور هو من الشارات التي تشي بجنسية الركاب، وتتشح به بعض الإيرانيات. ومن الشارات كذلك، الحجاب الرخو الملوّن المنحسر عند الغرّة، وأذكر حين أخبرتني صديقة عاشت في طهران أن من يسترن شعر الرأس بمثل هذا الحجاب الرخو لسن فعلياً "محجبات" وهن يعلنّ أنهن سافرات حين يتراخين في التزام "الزي الشرعي". وهذا الحنين إلى المأكولات الأميركية حمل ايرانيين على فتح أبواب مطاعم تحاكي سلسلة المطاعم الأميركية، ففتحت في طهران سلسلة "ماش دونالدز"، وسلسلة "بيتزا هات" (بيتزا القبعة) PIZZA HAT عوضاً "بيتزا هت" (كوخ البيتزا) الأميركية. 

وقال صاحب "ماش دونالدز" لصحيفة "نيويورك تايمز" في 2015 أنه لم يسمِّ مطعمه ماكدونالدز ليتفادى ملاحقة المتشددين الايرانيين وملاحقة محامي السلسلة الأميركية. واستنكر عضو مجلس مصلحة تشخيص النظام، الإيراني غلام علي حداد، أن تتصدر بعض الصحف الايرانية مقالات عن "الماركات" والسلع الاميركية المتوقعة عودتها الى السوق الايرانية، إثر ابرام الاتفاق النووي في 2015. وكتب شاجباً :"أين هي أخبار اليمنيين المظلومين؟".

لكن، والحق يقال، فإن "المناعة" ضد ماكدونالدز لا تقتصر على دول "محور الشر". ففي فلورنسا الايطالية، أثار مشروع فتح فرع لماكدونالدز في وسطها التاريخي، الاعتراض والنقد. فتراجعت المدينة، في 2015، عن رخصة منحتها للسلسلة الأميركية العملاقة، وتوعدت شركة ماكدونالدز، المدينة العريقة بملاحقتها أمام القضاء ومطالبتها بغرامة قدرها 18 مليون يورو. وفي جمايكا، يقال أنها أغلقت أبوابها بسبب شهية الجمايكيين الكبيرة و"صغر" حجم البرغر الأميركي الذي لا يُغني من جوع.   

وقبل ساعات من مشواري بالسرفيس إلى عين المريسة، استقليتُ سيارة أجرة للذهاب الى منطقة السوديكو. وكان الجالس هذه المرة الى جانب السائق يثرثر معه عن "أيام زمان" حين كانت سمعة الشخص ضمانة أمانته، بينما اليوم، لا أحد يقرض أحداً من دون سجل عدلي وأوراق ثبوتية كثيرة وضمانات مادية. وروى أن شاباً تقدم لخطبة شقيقته ذات يوم، لكن والد الصبية رفض لأنه "غريب" من البقاع، وهو "بيروتي". وعاد الشاب الى زيارة الوالد هذا، وقال له أن الشيخ الفلاني من آل الرفاعي، وهو، على قول الراوي، "شيخ حلقات زار وما بعرف شو"، "بيسلِّم عليك". فردّ والد الفتاة بالقول "الخميس كتب الكتاب (عقد القران)". وخلص الشقيق الى ما يشبه القصة الخرافية: وعاشت بسبات ونبات وخلّفت صبيان وبنات، وشيدت بيتاً مكان الغرفة التي سكنتها يوم كانت عروساً. 
لكن لفتني آنذاك أن سن الراكب يشي بخلاف ما يقول، وكأن كلامه عن "أيام زمان" وصله من جيل الآباء أو ربما الأجداد، وليس ثمرة أيامه هو، أي ليس وليد تجربته. فهو فتي في عقده الثالث. لكن عالم الأمس لم يخبُ سحره في عين هذا الشاب. وما زال هذا العالم يُحتكَم إليه في تزويج البنات في بعض الأوساط، فيقال أن فلاناً "ابن عائلة معروفة". لكن ضمانات عالم الأمس، وهي في مثابة شبكة أمان اجتماعية، خسرت شيئاً من فعاليتها. فمطلّقات كثيرات يروين قصص فشل زواجهن، رغم الحب وكون الطليق "ابن عيلة".     
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها