السبت 2019/01/12

آخر تحديث: 17:14 (بيروت)

السترات الصفر: متظاهر مُلاكم، وشرطي عنيف، وحرب إلكترونية

السبت 2019/01/12
السترات الصفر: متظاهر مُلاكم، وشرطي عنيف، وحرب إلكترونية
increase حجم الخط decrease
منذ انطلاقة حركة "السترات الصفر"، لا تدخر الصحافة الفرنسية جهداً في مقارنتها بأحداث فرنسية تاريخية اتسمت بدورها بالعنف. من خلال هذه المقارنة، يسعى الصحافيون لتبيان أوجه الشبه والاختلاف ما بين الحاضر والماضي في محاولة لمعرفة المكانة التي يمكن أن تحتلها الحركة في التاريخ الفرنسي، منذ الثورة الفرنسية hgعام 1789 إلى ثورة يوليو 1830، مروراً بكومونة باريس وصعود اليمين المتطرف منتصف الثلاثينيات وصولاً إلى أحداث أيار 1968.
وعليه، سعى الاعلام الفرنسي إلى التوضيح، بصورة غير مباشرة، أن العنف المصاحب لحركة السترات الصفر ليس غريباً على المحطات المفصلية التي طبعت تاريخ البلاد، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتحدي السلطة القائمة. 

قد يكون الفارق بين الحركة والأحداث التاريخية المذكورة آنفاً، أنه مع ثورة الاتصالات، بات في الإمكان توثيق عنف السترات الصفر بصورته الفردية أيضاً، إلى جانب العنف الجماعي الممارس. 

ومؤخراً، انتشر فيديو لمتظاهر يتعارك مع رجال الشرطة. كان واضحاً من طريقة توجيهه للكمات أنه يتقن بحرفية هذا الفن من القتال، أي الملاكمة. في اليوم ذاته نشرت إحدى نقابات الشرطة صورة لملاكم، ومن دون ذكر اسمه غردت النقابة المذكورة: "سيدي، أنت الذي ضربت زميلاً لنا، تم التعرف عليك. وكملاكم، أنت لا تحترم القواعد على ما يبدو. سنقوم بتعليمك قواعد القانون الجنائي". تبين أن المذكور هو كريستوف ديتينجر، بطل فرنسا في الملاكمة عن فئة الوزن الخفيف للعامين 2007 و2008. 

الكشف عن هوية ديتينجر دفعه إلى الظهور في  فيديو عبر فايسبوك اعترف فيه أنه أساء التصرف خلال المظاهرة الأخيرة للسترات الصفر، بيد أنه عزا تصرفه هذا إلى العنف المستخدم ضد المتظاهرين. وسلم ديتينجر نفسه للشرطة، يوم الاثنين الماضي، حيث سيخضع لمحاكمة بتهمة استخدام العنف ضد أشخاص ذوي صفة عامة، ما قد يعرضه لغرامة تصل إلى 100,000 يورو إضافة إلى خمس سنوات في السجن. 

لكن المسار القضائي الذي سلكته القضية أشعل عاصفة الكترونية، لا سيما مع الإعلان عن فتح صندوق تبرعات، عبر موقع Leetchi الشهير، دعماً للملاكم الموقوف. حملة التبرعات هذه أثارت حفيظة كبيرة. فوزير التكنولوجيا الرقمية منير محجوبي أبدى اشمئزازه منها، وكأنها مكافأة على ضربه للشرطي. من جهتها، وصفت إحدى نقابات الشرطة التبرعات بالمستفزة والمحرضة على العنف والكراهية، وفي المنابر الإعلامية انتشرت دعوات لايقافها. 

صباح الثلاثاء تجاوز حجم التبرعات الـ117,000 يورو مصحوبة بتعليقات مؤازرة للملاكم، ما دفع بالقيمين على الحملة إلى جعل المبلغ سرياً عقب اللغط الاعلامي الذي أثير حولها، قبل أن يعلن موقع Leetchi في اليوم ذاته إغلاق باب التبرعات بعد جمع المبلغ المطلوب. 

إلا أن إدارة Leetchi وجدت نفسها عرضة لموجة انتقادات حادة. فإضافة إلى الجدل السياسي والمعنوي أخذت المسألة بُعداً قانونياً: فالقانون الفرنسي يمنع جمع التبرعات لتغطية التعويضات والغرامات المفروضة بأحكام قضائية، ما أجبر إدارة Leetchi على توضيح موقفها، معتبرة الموقع مجرد وسيط وليس طرفاً وأن فتح باب التبرعات لم يخالف القواعد والشروط العامة للموقع. 

وفي تغريدة ثانية أكدت الإدارة أن المبلغ المجموع سيستخدم لتغطية تكاليف المحاكمة حصراً، ما يؤكد قانونية التبرعات، كما تم التعهد بعدم تحويل أي مبلغ إلا للمستفيد المباشر منه، أي محامي الدفاع عن ديتنجر، ومقابل مستندات. ورداً على حملة التبرعات هذه، انتشرت دعوات مضادة للتبرع لأفراد الشرطة الذين أصيبوا خلال مظاهرات السترات الصفر. 

فيديو ديتنجر الذي خطف الأنظار لم يطغَ بالكامل على فيديوهات أخرى لأحد ضباط الشرطة وهو يضرب بعنف متظاهرين في مدينة تولون. 

أثارت هذه الفيديوهات اهتمام الصحف التي أفردت مقالات أماطت فيها اللثام عن شخصية ديديه اندريو العنيفة والعدوانية، وسجلّه الحافل بالتجاوزات المهنية. ودار جدل حول قانونية لجوء اندريو للعنف، خصوصاً عندما أعلن المدعي العام أن تصرفه يتناسب مع "حجم التهديد"، فيما أعلن المحافظ فتح تحقيق حول الحادث. 

رغم الشرخ الحاد الذي أثارته هذه الفيديوهات، ارتفعت أصوات وسطية. فالصحافي جان دومينيك ميرشيه روّعه كيف ينظر الناس بعين واحدة، إما إلى عنف "السترات الصفر"، وإما إلى عنف الشرطة، مشبهاً الأمر بمنطق الحرب.
صحيحٌ أن وهج حركة "السترات الصفر" يخفت من أسبوع لآخر، لكن هذا لا يعني أنها لم تعد حديث الشارع الفرنسي. فالمظاهرات الأسبوعية المستمرة، ولو بوتيرة أخف، ما زالت حتى اللحظة عنواناً لانقسام داخلي حاد، انقسام لا يبدو أنه في طريقه للانحسار:

فكريستوف ديتينجر يجسد في عيون "السترات الصفر" صورة الفرنسي الذي يتحدى ويواجه الاستبلشمنت. أما في عيون خصومه، فهو ليس سوى جانح يستحق أشد عقاب. كذلك الأمر بالنسبة إلى ديديه اندريو، الذي يرى فيه البعض مثالاً للنظام العام الذي يجب أن يسود من جديد، فيما تنظر إليه حركة "السترات الصفر" كرمز للسلطة التي ترفض الاصغاء لآلام الشارع. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها