الإثنين 2018/08/06

آخر تحديث: 18:10 (بيروت)

نشاط "داعش" في سوريا: أسرع من المتوقع!

الإثنين 2018/08/06
نشاط "داعش" في سوريا: أسرع من المتوقع!
increase حجم الخط decrease
ثمة فرق كبير بين مقطع الفيديو الأخير الذي بثه تنظيم "داعش" لإعدام شاب من محافظة السويداء السورية، وبين عشرات المقاطع الأخرى التي بثها في السابق لعمليات إعدام مروعة، شكلت العنصر الأبرز في هالة الرعب التي رسمها التنظيم لنفسه، منذ بروزه كقوة راديكالية استطاعت إسقاط الحدود بين سوريا والعراق للمرة الأولى منذ اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت شكل المنطقة قبل أكثر من مئة عام.


وإن كانت مقاطع الإعدام الداعشية، التي تفنن التنظيم في إنتاجها وتصويرها وتقديمها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قد شكلت ذروة خلافته المزعومة، دعائياً، وبالتحديد مقاطع مثل إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة، فإن المقطع الجديد يبدو رمزية توازي انهيار التنظيم وتقهقره بعد طرده من كافة المراكز الحضرية في سوريا والعراق، والهزائم المتتالية التي لحقت به في معارك ضد التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، أو قوات محلية مثل "قوات سوريا الديموقراطية" الكردية أو ميليشيات إيرانية مثل "الحشد الشعبي" في العراق.

والحال أنه لا يمكن تقفي أثر الفيديو الأخير إلى منصات أو حسابات تابعة للتنظيم الداعشي، بعد نجاح شركات التكنولوجيا الكبرى إلى حد كبير، في القضاء على وجود التنظيم إلكترونياً وخصوصاً في مواقع "تويتر" و"يوتيوب". بدلاً من ذلك بثت الفيديو المكون من شقين، وسائل إعلام محلية في السويداء، قبل أن تتناقله وسائل الإعلام المختلفة. علماً أن المقطع لا يتجاوز الدقيقة الواحدة، على عكس إصدارات "داعش" المرئية السابقة التي تميزت بطول مدتها وكأنها أفلام سينمائية خصصت من أجل إظهار "جمال الشر" كفلسفة قامت عليها دعاية التنظيم، حسبما كشف مصورون داعشيون انشقوا عن التنظيم قبل سنوات.

وإن كانت فرضية أن الإرهاب يتمدد في الخلاء، صحيحة في وقت سابق، فيجب القول إن الإرهاب الداعشي اليوم ينزوي ويتلاشى في الخلاء أيضاً. فالفيديو الجديد بكامله، جاء من مكان مفتوح مجهول وسط الصحراء، من دون أن يظهر أحد من منفذي الإعدام. بعكس الفيديوهات الداعشية القديمة التي كان يكتظ فيها جلادو التنظيم مع رايات سود وسط المدن التي سيطروا عليها، لتنفيذ عمليات الإعدام، وكان المكان حينها بطلاً خفياً لتلك المقاطع، سواء في الرقة أو تدمر مثلاً لأن تلك الأراضي التي سيطر عليها التنظيم كانت عامل القوة في بناء دعايته المؤثرة وعامل الجذب الأول للمقاتلين المحتملين للانضمام إلى صفوفه كدولة يوتيوبيا إسلامية، بعكس حالته اليوم.

بالتالي، يمكن تلمس تحول "داعش" في بادية السويداء إلى مجرد عصابة من المجرمين الهاربين من قبضة العدالة، يشن أفرادها هجمات يائسة، وهي حالة أقل بكثير من فرضية انحسار التنظيم عسكرياً ودعائياً، إلى حركة "تمرد" متطرفة بشكلها الكلاسيكي، على غرار "طالبان" في أفغانستان، مع سعي التنظيم إلى الحفاظ على ضخه الدعائي باعتباره "تياراً جهادياً عالمياً" مماثلاً لتنظيم "القاعدة"، وتلك نقطة جوهرية في رؤية التنظيم لبقائه في المدى الطويل كقوة اسمية بارزة ضمن التيارات الجهادية، من أجل اغتنام فرصة الانبثاق مجدداً في المستقبل، مع توافر الظروف الملائمة.

ولا يعني الفيديو دليلاً على عدم صحة الفرضية السابقة تماماً، لأنه يبقى مقطعاً شديد المحلية في النهاية، خصوصاً أن مجموعة من الدلائل الأخرى، تثبت أن التنظيم يتحرك ويعيد ترتيب صفوفه في مناطق بعيدة عن سوريا والعراق. فضلاً عن إحيائه نشاطه الإلكتروني بشكل محدود، وبات يطلق على أتباعه تسمية "الغرباء" في إشارة لحديث النبي محمد "الإسلام ولد غريباً وسيعود غريباً"، ويمكن تلمس ذلك في موقع إلكتروني يحمل اسم "الغرباء" تم إطلاقه الشهر الماضي.

يجمع الموقع إصدارات "داعش" القديمة، سواء مقاطع الفيديو أو النشرات الإذاعية من إذاعته الرسمية السابقة "البيان" أو حتى المجلات والصحف (الملاحم، النبأ،..) التي قام ببثها. فضلاً عن إنتاجات جديدة، يتم تقديمها من مراكز إعلامية سابقة ومستحدثة، بما في ذلك "مركز الحياة"، بالإضافة إلى مقاطع يشرف عليها بعض قادة التنظيم المشهورين إعلامياً مثل "ترجمان الأساورتي".

وتركز الدعاية الجديدة على انهيار "الخلافة" بسبب المؤامرة الغربية على الإسلام، وتمتلئ بمقاطع من وسائل إعلام عربية وغربية تتحدث عن الإرهاب الداعشي، ويتم استخدامها في سياق يشير إلى "حجم المؤامرة التي تستهدف الدين". ويمكن اعتبار مقطع قصير بعنوان "رسالة إلى الغرباء" الذي يبدأ بمقاطع أنيميشن بدائية تظهر رحيل مقاتلي التنظيم عن "دولتهم" عبر سفن بحرية، بداية حقبة جديدة في دعاية التنظيم وتأقلمه مع الوضع الجديد، ويحث فيها التنظيم أنصاره للصبر من أجل عودتهم لـ"الجهاد" مجدداً.

ويبدو واضحاً أن التنظيم يعود في الفيديو إلى جذوره الأولى فاستعاد أبرز لحظات "مجده" الغابر وبدا السياق أشبه بخطاب الوداع، وإعلاناً ذاتياً أشبه بالاعتراف بالانتقال إلى حالة جديدة من السبات العسكري وتوجيه العمليات الإرهابية بنمط "الذئب المنفرد" ضد "الأهداف الكافرة" في دول غربية بعيداً من مراكز سيطرته السابقة، في انتظار فرصة مواتية أخرى كي ينبعث من جديد لإحياء "دولة الخلافة" في سوريا والعراق بوصفهما دولتين لا تتوافر فيهما حلول سياسية قادرة على القضاء على جذور الإرهاب نفسه.

ويجب القول أن استذكار ماضي "داعش" هنا ليس عبثياً أو عاطفياً بكل تأكيد، بل يعمل التنظيم على تحويل "إرثه" العنيف ووجوده السابق إلى خرافة أو أسطورة، وهو أمر سعى إليه التنظيم بشدة منذ اليوم الأول لظهوره، تمهيداً لليوم الذي يهزم فيه ويتقهقر نحو البادية والأرياف التي خرج منها، راسماً صورة المدافع عن "المظلومين السنّة" ضد "المتوحشين الشيعة" و"الأجانب الصليبيين"، مستفيداً من مظلوميات تاريخية تتكرر وتزداد كشعاره تماماً "باقية وتتمدد". فيما ينقل جهوده إلى أماكن بعيدة في آسيا وأفريقيا بانتظار عودة "المهاجرين الغرباء إلى أرضهم" و"إحياء دولة الخلافة" مجدداً.

رغم ذلك، مازالت تلك الجهود ضعيفة، وتحديداً على مستوى الإنتاج والإبهار البصري، بعدما فقد التنظيم قدراته الدعائية واستوديوهاته التي أنشأها على الطريقة الهوليوودية في الرقة التي خسرها العام الماضي، التي شكلت مركزاً لمعظم الانتاج الاعلامي الصادر عن التنظيم الذي يروج لبياناته واعتداءاته الوحشية من جهة، ويصوّر المدينة بمثابة "جنة" جهادية نجح في تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية فيها، من جهة ثانية. وتعزز ذلك بمقتل وهروب عناصر التنظيم، بما في ذلك المسؤولون عن إنتاج البروباغندا وخسارة التنظيم  خسر حوالي ثلثي الأراضي التي كان يسيطر عليها العام 2015 وأكثر من 80% من مصادر تمويله في نفس الفترة حسبما تشير تقارير غربية.

نشر المقاطع في هذا الوقت قد لا يكون عبثياً. وقد يعني، بشكل معاكس، إعلاناً بعودة التنظيم إلى النشاط بشكل أكبر في سوريا والعراق، وتثبت هجماته "داعش" الأخيرة في السويداء وحماة وإدلب، خصوصاً في الرقة، ضد أطراف مختلفة، أن التنظيم سيبقى مصدر قلق في سوريا والعراق، لعدم توافر حلول سياسية تنهي المظالم التاريخية والاجتماعية التي أدت في الأساس لنشوء التنظيم وخلق جذور العنف والتطرف.

وعليه، فإن خروج "داعش" من الظل وعودته لساحات المعارك في سوريا قد يكون أسرع من المتوقع، كما يظهر من تتبع مقاطع الفيديو الأخيرة، فالتقارير ذات الصلة تشير إلى وجود 8 آلاف إلى 10 آلاف مقاتل تابعين لـ"داعش" في كل من العراق وسوريا، وهو 10 أضعاف العدد الذي بقي في العراق ضمن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، عندما انسحبت القوات الأميركية منه العام 2011، وقد استطاع التنظيم بالعدد المتوفر حينها، تغيير صورته بعد ثلاث سنوات من السيطرة على مدن ومناطق شاسعة من العراق، والوصول إلى أبواب العاصمة العراقية بغداد!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها