الأحد 2018/08/05

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

"آبل"والتريليون دولار :إكتمال الاكذوبة!

الأحد 2018/08/05
"آبل"والتريليون دولار :إكتمال الاكذوبة!
لا تستند "آبل" إلى مناجم ذهب ولا إلى آبار بترول، ومع ذلك هزمت قيمتها كل تلك الأمور (غيتي)
increase حجم الخط decrease

ماذا يقول المغرمون بأجهزة "آي فون" و"آي باد" اللامعة، إذا عرفوا أنّ "آبل" تعلّق على جدران مصانعها في الصين لوحات تحمل إنذاراً إبتزازياً: "إعمل بكد اليوم، وإلا فإبحث عن عملٍ آخر غداً"؟ أليس ذلك توافقاً كاملاً بين الربح المعولم والنظام الشمولي الساعي لاقتصاد معولم على طريقته أيضاً؟

 هزم الذكاء والفكر كل شيء آخر في التبادل بين البشر حاضراً. لا أقل من ذلك في وصف ما ضجّ به الإعلام العام عالمياً من تحقيق شركة "آبل" تريليون دولار في قيمتها، للمرة الأولى في تاريخ الشركات واقتصاداتها. لا شيء بارزاً أكثر من الذكاء (بل ربما لا شيء آخر سوى ذلك) في ما صنعته "آبل"، من كومبيوتر "ماك" إلى الخليوي الأشهر "آي فون".

ينطبق ذلك الوصف على معظم منتجات ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطورة، بمعنى أن قيمتها الفعلية ليست في مكوناتها "الجامدة"، بل في الذكاء الذي يتحرك بينها. ألا يكثف ذلك الوصف الشائع لـ"آي فون" بأنه هاتف ذكي، بل أنه كان بداية ذلك النوع من الأدوات الذكية في الاتصالات المعاصرة، كما سيرد بعد سطور.

قبل كل شيء: إنه مجد للذكاء. لا تستند "آبل" إلى مناجم ذهب ولا إلى آبار بترول، ومع ذلك هزمت قيمتها كل تلك الأمور.  خلال 42 عاماً، استطاعت شركة أسسها صديقان يجمعها الذكاء (المهندس الإلكتروني ستيف ويزنياك والمهندس المعلوماتي الراحل ستيف جوبز)، بل صنعة تحويل الذكاء منتجات تستند قيمتها إليه، أن تتفوق على كل شركات تبادل كل أنواع السلع في التاريخ المعاصر.

تفوقت "آبل" على شركة "بتروشاينا" للنفط التي وُصِفَت في 2007 بأنها أول شركة يصل حجمها إلى تريليون دولار، ثم اتضح سريعاً أنها أرقام مضللة. في السنتين المنصرمتين، حاولت شركة "آرامكو" للنفط الإيحاء بأن قيمتها تلامس 2 تريليون دولار، لكن خبراء الأسواق تحفظوا على الرقم، ما دفع الشركة الى تأخير دخولها "المنتظر" إلى تبادلات البورصة العالمية. لعل في الأمر رسالة خاصة إلى "آرامكو". كيف يمكن وصف المنافسة أمام شركات لا يسندها شيء ملموس، بل هو ذكاء يتألق ويتزايد بقدر التمرس فيه، فيما "آرامكو" تستند إلى سلعة ملموسة لها قيمة بأسقف معلومة، بل أنها تتأرجح تحت ضربات "اليد الخفية" للسوق، وفق تعبير شهير بين الميّالين إلى العولمة وتفاعلتها؟ ماذا لو استخدمت شركة مثل"آبل" قوتها المالية في شراء أسهم "آرامكو"؟ ألا تتحوّل في مثل إغماضة عين وانتباهها إلى مالك كبير للشركة؟

من دولار إلى تريليون!
لنعد إلى "آبل". قبل عشرين سنة تماماً، كانت قيمة سهمها تراوح بين دولار ودولار وبضعة سنتات. ومع وصول سهمها إلى 207.50 دولار، وصل حجم الشركة إلى تريليون دولار. من يتأمل صعود السهم، يلاحظ أنه لامس 17.4 دولار في 2007، وبعدها دخل في تصاعد صاروخي.لا شيء يفسر ذلك أكثر من تزامنه مع صعود ظاهرة الـ"سوشال ميديا" التي تصاعدت أعداد جمهورها لتفوق حفنة من بلايين الأشخاص حاضراً (جمهور "فايسبوك" وحده يفوق 2.4 بليون شخص)، وصارت جموعهم لا تكل ولا تمل من التواصل عبر الهواتف الذكية. لعلها لمعة ذكاء جوبز أنه دمج الخليوي بالانترنت عند ابتكاره "آي فون" في 2007 أيضاً، ليشكل انعطافة في تاريخ هواتف الاتصالات وذكائها، وهو صعد أيضاً بأسهم الشركة بطريقة صاروخية. وعند دخولها حجم تريليون دولار، جاءت معظم أرباح "آبل" من... "آي فون"! الأرجح أنه درس مهم تماماً في تاريخ الذكاء البشري وقيمته.

لكن مهلاً ثم مهلاً. إذ تسير القصة التقنية لشركة "آبل" بسلاسة تثير التساؤل. هناك شيء ما غير القصة الكاملة البهاء والصفاء التي تقول أن 6 منتجات تقنية، صنعتها عقول متألقة، أوصلت الشركة إلى اختراق التاريخ بتريليون دولار.

في مستهل الستينات من القرن العشرين، حذر المفكر الفرنسي رولان بارت، من تلك القصص المتألقة والتامة الكمال عبر مثل لم يعد يُنسى. إذ رأى غلافاً لمجلة "باري ماتش" عليه صورة جندي فرنسي بملامح جدية يؤدي باعتزاز ظاهر التحية للعلم الفرنسي. كل شيء تام، كل القصة مكتملة، لكن هناك تفصيلاً فارقاً: الجندي أفريقي ولون جلده أسود. وفق صورة الغلاف، أحد أبناء الدول الأفريقية التي تستعمرها فرنسا وتبني عليها امبراطوريتها، يؤدي التحية بوفاء وإخلاص للإمبراطورية التي تحتل بلاده، وتقتل شعبه، وتصادر مصيره الوطني. رأى بارت في الصورة محاولة مكشوفة من الإمبراطورية للإدعاء بأن ضميرها الانساني رائق ونقي، لكن وقائع الأمور تناقض ذلك الخلاص الوهمي. تنطق وقائع الأمور بتمييز عنصري ضد الأفارقة في فرنسا (آنذاك، وحتى الآن؟)، وتنكر أن وجودها في أفريقيا استعمار له سجل دموي طويل. استخلص بارت أن الصورة المطابقة للقصة النقية ليست سوى محاولة لتقديم دعم بصري لأسطورة الانسجام والعلو الانساني للامبراطورية الاستعمارية. وخلص بارت للقول إنّ الأسطورة المعاصرة (بل ربما دوماً) هي أكذوبة مكشوفة، لكنها تعمل بإصرار على إزاحة كل تناقض معها، بمعنى أنها أكذوبة مكتملة، لا تهتم بأن تدعم كذبها قدر اهتمامها باكتمال الكذبة عبر تمام التألق وإزالة كل ما يشوه البهاء الكامل. يخطر في البال فوراً أن تلك الأمور عينها هي معقد أساسي في الأنظمة الشمولية أيضاً، وهو أمر لم يفت بارت آنذاك.

عن ستة منتجات حاسمة
ضمن ذلك الأفق، هناك صورتان يجدر تقديمهما، ويُترك للقارئ استنتاج أيهما الأسطورة. في الأولى، هناك ستة ابتكارات صنعت شركة "آبل" العملاقة والتريليون دولار. وهي على النحو التالي:

1- كومبيوتر "آبل" الأول في نيسان 1976، ويعتبر أول كومبيوتر مكتب شخصي.

2- كومبيوتر "ماكينتوش" في 1984. أول كومبيوتر مكتب معد للجمهور الواسع. استندت منصة تشغيله إلى لغة بصرية محضة، وكانت شاشته مملؤة بالأيقونات، وتوقف انتاجه في 1985. يُنسب إليه فضل إطلاق تسمية "كومبيوتر ماك" على حواسيب "آبل".

3- "آي ماك جي 3" في 1998. أول حاسوب مكتب يدمج الوحدة الإلكترونية الأساسية [= "اللوحة- الأم" Mother Board] مع الشاشة. حل مكانه سريعاً "جي 4" ثم توقف القطار 2003.

4- "آي بود" iPod في 2001: شكّل اختراقاً في الأجهزة الموسيقية الفردية الرقمية، بل قضى على الهيمنة المديدة لأجهزة الـ"ووكمان". تلى ذلك صنع جهازي "آي ميني" و"آي نانو" للموسيقى الرقمية.

5- "آي فون" iPhone: ذلك الخليوي هو درة التاج في نجاح "آبل". ظهر في 2007، وقدّمه العبقري جوبز في عرض مسرحي لا ينسى. وكان أول خليوي ذكي بمعنى كونه كومبيوتر مصغر وهاتف للاتصالات وأداة لاستعمال الانترنت. خلال 11 سنة، صنعت الشركة منه 18 نوعاً مختلفاً، بيع منه بلايين الوحدات. وضمن للشركة 60 في المئة من الأرباح التي أوصلت قيمتها الى التريليون دولار.

6- "آي باد" iPad. سجّل ظهور نوع جديد من الكومبيوترات خارج النوعين التقليدين (المكتبي والـ"لاب توب")، وراج بقوة بين الشباب، مع شاشة تعمل باللمس. وصلت مبيعاته الذروة في2013.​

ذكريات 2011: الانتحار ثمناً
لم ينس متابعو المعلوماتية تذكير "آبل" بأنها تعمل بتناغم تام مع النظام الشمولي في الصين، ما يمكنها من "اعتصار" عقول صينية تعمل بشروط مجحفة وبأسعار زهيدة. كانت "آبل" من الشركات التي أدارت الظهر لسياسة الرئيس الشعبوي دونالد ترامب حيال الصين، بل عارضته علانية، لأنها تستورد من الصين وغيرها، مجموعة من العقول المتألقة.

وفي العام 2011، شهدت مصانع "فوكسكون" في جنوب الصين، سلسلة من الانتحارات المتوالية في صفوف العاملين فيها. وزاد في الطين بلة، أن حدث انفجار في ذلك المصنع أودى بحياة 4 عمال، لكنه أشّر على رداءة ظروف العمل فيه، خصوصاً لجهة حماية العاملين فيه. وآنذاك، وثق الاعلام العالمي الظروف المجحفة للعمل في مصانع "فوكسكون" في مقاطعتي "شنغدو" و"شينزهين" التي تشبه معسكرات الاعتقال. ويشمل ذلك عدم وقاية العمال من المواد النادرة المستخدمة في صنع "آي فون" و"آي باد" كالزئبق والكاديوم.

والمفارقة أن تلك المشهدية القاسية تعتبر نموذجاً عن الفارق الضخم بين انتاج السلع ومردودها من جهة، ونصيب من يعملون في صنعها، وهو أمر نظّره كارل ماركس الذي يفترض أن نظام الحزب الشيوعي في الصين يستند إليه.

يكفي التفكير في الأمر التالي: كم زادت رواتب العاملين في "فوكسكون" (وضمنهم المهندسين والتقنيين والعاملين المدربين، وتقدر أعدادهم بنصف مليون شخص) بالمقارنة مع زيادة مردود شركة "آبل" التي وصلت إلى تريليون دولار؟ لنراجع كلام بارت قليلاً!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها