الجمعة 2018/08/03

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

قضية رشيد جنبلاط: للعهد جهازه الأدبي

الجمعة 2018/08/03
قضية رشيد جنبلاط: للعهد جهازه الأدبي
من المتاح ههنا التذكير بالاستفهام الشهير لجبران باسيل: "وينها كارولين؟"
increase حجم الخط decrease
يواصل العهد الراهن استعراض قوته من خلال استهداف كل من يسجل موقفاً منه في مواقع التواصل الاجتماعي، في وقت تبدو الشاشات الصغيرة مذيعة الولاء له. فمساء الخميس، اعتقلت القوى الأمنية، مساء أمس الخميس، المدعو رشيد جنبلاط إثر منشورات في "فايسبوك" و"تويتر"، كتب فيها ضد التيار الوطني الحر، ممثلاً بوزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل، ومعه رئيس الجمهورية ميشال عون. ثم أخلي سبيله ظهر اليوم الجمعة. 

ومع إضافة جبنلاط إلى لائحة الموقوفين بسبب آرائهم، يزداد التضييق على الحريات في البلاد، بحيث يوشك سقفها على الانخفاض لدرجة تحوله إلى أرضية. الكل مدفون تحته، ولا أحد فوقه سوى ثلة من المنتفعين، أي مُهَبطيه، الذين يذعرهم علوّه في الأساس.

المضي إلى القضاء على الحريات يعني استبدالها بالخوف منها، ويعني الانتقال إلى القضاء على القوام الأخير للبلد، ويعني أيضاً إعلان حكم الإعدام بحق هذا البلد. لكن ثمة مَن يبرر القبض على جنبلاط، وعلى غيره أيضاً، انطلاقاً من حجة واضحة، وهي أنه لا يدلي بما يدور في خاطره بطريقة دمثة، بل أنه لا يتوقف عن كيل الشتائم لخصومه السياسيين، وتوجيه الإساءات إليهم.

وبالفعل، وبقراءة ما كتبه جنبلاط، من الممكن الشعور بأن أسلوبه يتسم بنوع من الغلاظة، عدا عن كون نبرته ثقيلة، كما أنه مبتذل التشبيه والمبالغة أيضاً، خصوصاً عندما يرد على خصومه إياهم، الذين يرتكزون على الأسلوب ذاته والنبرة في التحشيد والتعصيب. إلا أن وضع المكتوب هذا لا يدفع سوى إلى الحديث عن الصلة بين التواصل وإنتاج الصخب، وليس إلى جعله حجة لتنفيذ الاعتقال بحق صاحبه.

فالذين يبررون مداهمة منزل جنبلاط وسوقه إلى السجن بحجة أسلوبه التعبيري، يظنون أنهم بهذا يحضون على الاعتقاد بكونهم لم يسمعوا أو يقرأوا كلمة نابية طوال عيشهم، وبكونهم، وعندما سمعوها وقرأوها، تعرضوا لجرح معنوي غائر، لا يمكنهم الشفاء منه بلا تدخل الطبيب الذي يُدعى: الدولة. إذ أنها، وعلى أساس تبريرهم وحجتهم، تغدو جهازاً أدبياً يحافظ على نقاء القول من شوائب الانفعال أو الغضب، كما تحفظ أمنه البلاغي، وذلك بقصاص الناطق به أو كاتبه في حسابه الإلكتروني الخاص.

على أن هذا الجهاز الأدبي، ولكي يفحص ذلك القول، ويحدد إن كان مهذباً أم لا، يعتمد معيار التفتيش عن أسماء العهد فيه. فإذا كانت مذكورة مدحاً، يكون القول منجزاً لبيانه وبديعه. أما إذا كانت مذكورة ذمّاً، فيكون القول سقيماً، وبالتالي، يصبح لازماً تصحيحه عبر عقاب مسجله. فلا قول لجهاز العهد الأدبي سوى قول واحد: تقريظ أسمائه، وأي مخالفة له هو وقوع في خطأ نحوي وأخلاقي.

المضحك أن البارحة، وقبل إلقاء القبض على جنبلاط، وفي وقت احتفاله بالجيش، سجل ذلك الجهاز غلطةً/زلة لسان بحق مؤسسته العسكرية، ولم يكن مرتكبها سوى رئيسه ميشال عون. طبعاً، لم يصحح الجهاز خطأ رئيسه، ولم يعتقله. حاول التستر عليه، غير أن خطأ عون بدا أنه تفلت من جهاز العهد الأدبي، ولم يلتزم به. وفي هذا السياق، من المتاح التذكير بكلام عون المتوتر، لا سيما مع الصحافيين، قبل وصوله إلى قصر بعبدا، ولا تُنسى عبارته "تحت زنّاري".. مثلما من المتاح التذكير بكلام كثير لصهره، لا سيما استفهامه المشهور "وينها كارولين؟".

في النتيجة، هناك جهاز أدبي للعهد، يسعى إلى إكراه المواطنين على الخضوع لمعياره الأولي، أي تقريظ أسمائه، في حين أن رموزه نفسها لا تنضبط به، بشكل مضحك وكاريكاتوري. كما لو أن الدولة، حين تقاصص هذا أو ذاك، وحين تبرر مقاصصتهم بحجة بذاءة قولهم، تريد أن تتظاهر بعكس قولها الرسمي الذي يتلفظ القيمون عليها به، ليكون متأرجحاً بين الركاكة والإهانة. وكما لو أن إقدامها على الفعل ذاته يشير إلى أن القيمين عليها لا يستطيعون الإقرار بخطأ قولهم. لهذا، يسرعون إلى مكافحة كل مخالف لهم: ليس الحر في قوله فقط، بل الذي يغلط في هذا القول من دون أن يتنكر لذلك أيضاً.

لا تواجه الدولة خطأ قولها، بل تكابر عليه. وعندما يعلن جهاز عهدها الأدبي، الحربَ على الحريات، يؤكد أن خطأها ضخم، ويحتاج إلى إخراس كل البلد لكي لا يلاحظه أحد عليها: كأنه "أصغر من أن يقسم، أكبر من أن يبلع".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها