الإثنين 2018/08/27

آخر تحديث: 19:07 (بيروت)

فانتازيا إسقاط ترامب

الإثنين 2018/08/27
فانتازيا إسقاط ترامب
increase حجم الخط decrease
في خضّم تفاقم الأزمة التي يتخبّط فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ووسط الضجّة الإعلامية التي تثيرها فضائحه المتتالية، انشغلت وسائل الإعلام الأميركية والعالمية بالأخبار التي تنبىء بدنوّ أجَله السياسي، بعد تصاعد الترجيحات والاحتمالات حول إمكانية نسج قضية محكمة ضدّه، تؤدّي في نهايتها الى محاكمته أو عزله من منصبه. فيما يبرز نقاش مختلف في مكان آخر، بعيداً من الأضواء، يرى فيه البعض أنّ الأحداث المتعلقة بالتحقيق وإدانة شخصيات مقربة من ترامب، رغم كارثيتها وسوئها الظاهر، قد تكون أمراً يصبّ في صالحه وتشكّل سبباً لإعادة الفرز بين الشريحة الكبرى التي صوتت لترامب العام 2016 وبين مناوئيه، الذين اعتبروا أن انتخابه كان ضدّ المصلحة الأميركية العليا، فيما كان ناخبوه حينها يرون فيه تجسيداً للشخصية الأميركية الحقيقية، التي تنظر إلى المصالح المباشرة والضيّقة المحيطة بكل متعلقات حياتها اليومية، اقتصادية كانت أم مجتمعية.

هذه الاعتبارات المترافقة مع الفوز المفاجىء لترامب العام 2016، والتي أطاحت الاحصاءات والقراءات عن "حتمية" سقوطه، جعلت بعض وسائل الإعلام المحلية تتوخى الحذر وتحاول الغوص مجدداً في التركيبة الفكرية للناخب الأميركي وفهم كيفية رؤية مناصري ترامب ومؤيديه له على وجه التحديد، بغية تفنيد مفهومهم لإنجازاته، وماهية رؤيتهم لأميركا بعد سنتين على بداية عهده. وجعلوا من هذه القراءة منطلقاً يمكّنهم من رسم صورة واقعية استباقية قد تكون حاسمة بالنسبة إلى نتائج الانتخابات الرسمية للكونغرس، في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، والتي سيتقرر على ضوء نتائجها ما إذا كان الجمهوريون سيحتفظون بغالبيتهم في الكونغرس، أمّ أن أنها ستنتقل إلى الديموقراطيين، ما سينعكس بالتالي في بقاء ترامب في الحكم أو السير في إجراءات عزله، استناداً إلى ما تكشّف مؤخراً بعد اعترافات وإدانة محاميه المقرّب، مايكل كوهين، ورئيس حملته الانتخابية بول مانافورت.

لم يكن التعاطي الاعلامي مع دونالد ترامب سهلاً على الاطلاق، منذ انخراطه في الشأن العام. فالرجل أربك وسائل الاعلام الاميركية منذ اللحظة الاولى لترشحه للانتخابات، حيث بدا صاحب شخصية لم تستطع أن تألفه أو يألفها. إذ إنّ جلّ موضوعاته التي طرحها، إبان حملته الانتخابية حتى وصوله إلى البيت الابيض، وطوال فترة العامين التي جلس فيها على كرسي الرئاسة، بدت ذات إشكاليات ونمط من التعاطي أطاح كل ما هو مكرّس من قبل من سبقه من الرؤساء، ما أدّى إلى زعزعة كامل منظومة القيم والمفاهيم والأعراف الأميركية السائدة، إن كان لناحية أسلوب التواصل وسبل التعبير التي كرّسها أسلافه بتعاطيهم مع الاعلام، وحتى مع أصدقاء أميركا وأعدائها على حدّ سواء.

فما يمكن تسميته ببروز حالة ترامب، طفت معها إلى السطح حالة أميركية موازية تمثّلت بنوعية الناخبين الذين أعطوه أصواتهم، كونهم رأوا في ترامب تمثيلاً لأميركا بفرادتها ونرجسيتها، حيث أظهر فوزه لاحقاً أنّ هذه الشريحة أضحت كتلة صلبة يصعب الرهان على تغيّر مزاجها أو رأيها، بل إنها قد تستقطب المزيد ممن لا يبالون بفضائح رئيسهم، بل جلّ ما يرون فيه أنه رجل أنقذ اقتصاد أميركا وخلق لشعبها فرص عمل جديدة وخفّض من الانفاق الخارجي في مقابل صفقات مربحة مع دول كالسعودية، وحمى الصناعة الداخلية ونجح في خفض نسب البطالة، وحدّ من طغيان التبادل التجاري مع الصين وقلّص نسبة المهاجرين غير الشرعيين عبر المكسيك. وتحقق ذلك كلّه، في نظرهم، كونه أتى من خارج الوسط السياسي التقليدي، ما جعله أكثر حزماً وأقل تساهلاً في مواضيع لا يقدر غيره على إصدار قرارات حاسمة بشأنها، عدا عن أن الكثير من مناصريه يرون فيه "رجلاً صادقاً يلتزم بوعوده ويفي بها".

لذا فإنّ النهج الذي تتبعه بعض وسائل الاعلام المحلية، محدودة الانتشار، ينطلق من التعاطي بواقعية أكثر من الأسلوب الذي تنتهجه كبريات وسائل الاعلام الأميركية، التي اختارت هذه المرة أن تشنّ حرباً مفتوحة على ترامب، انطلاقاً من العداء الذي استحكم بينهما، من دون الأخذ في الاعتبار ما يفترض استخلاصه من درس 2016، والذي أشار بوضوح إلى خفوت تأثير وسائل الاعلام في الناخب الأميركي، ما قد يأتي بالنتائج العكسية نفسها. ولعل هذا ما يجعل من وسائل الاعلام الأصغر، أي الأقل شعبية وجماهيرية في الداخل الأميركي، قادرة على رصد مكامن أساسية في النقاش، والاضاءة على حقيقة أنّ أنصار ترامب ومؤيديه لا يزالون متمسكين بالدفاع عنه رغم كل ما يتكشف من كذبه واحتياله وفضائحه. وبالتالي، وبحسب المنطق هذا، فإن الرهان على اسقاطه شعبياً والتحريض عليه قبيل انتخابات الكونغرس قد لا يأتي بالنتائج المأمولة. فالشريحة الواسعة الملتفة حوله ما زالت ترى فيه الحل وليس المشكلة.

ويرجع البعض إلى أن الهوّة بين الإعلام والمواطن موجودة فعلاً، كون الإعلام يعيش "فانتازيا إسقاط الحاكم"، وهو يحشد لتحقيقها ويقوم بتقديمها كحقيقة ونتيجة حتمية، ما قد يؤدي بالنتيجة إلى إعادة الكرة والخطأ في تقدير النتائج لعدم قدرة وسائل الاعلام على إدراك أن الذهنية الأميركية بمجيء ترامب قد تغيرت بشكل كبير، وإنّ نظرة الشعب للسياسة والسياسيين طرأت عليها تغييرات جذرية أبعدتها من الإيديولوجيا ومبدأ الصواب السياسي، لتنحاز إلى القياس بالمعيار الأول، الذي يتمثل بالوفاء بالوعود ورفض النظرية التي تفترض أن قيادة الولايات المتحدة للعالم تستوجب تبذير الأموال الطائلة التي هي من جيوب دافعي الضرائب، لمساعدة ودعم "كل من هبّ ودبّ" من حلفاء وأشباه حلفاء في هذا العالم.

ترامب الذي بدا ملمّاً بالشخصية الأميركية هذه، ومتقارباً من أفكارها، أكثر من المنظومة الإعلامية المُتّهمة بأنها لم تستطع تجديد نفسها، ما زال يستعدي الصحافة في كل مناسبة، ولم يحاول خطب ودها ولو لمرة واحدة. إذ بدا حتى الآن واثقاً من أنّ الشعب الأميركي "ملّ النفاق السياسي"، وتجب بمخاطبته بالطريقة التي تتفهم هواجسه وأفكاره، وأن هذا الشعب على استعداد للتمسك به حتى لو أطلق النار على شخص وقتله، حسبما ذكر في إحدى جولات حملته الانتخابية. لذا وفي حال صدقت توقعاته، ونجح الجمهوريون في الحفاظ على الغالبية في الكونغرس، فإنّ كل الأزمات التي تعرّض لها ترامب ربما تتبخر، والأُمنية التي ينتظر كثر تحقيقها بعزله من الرئاسة ربما لا تحصل، لتكون هزيمة جديدة للإعلام الأميركي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها