كلما كثر الحديث في المسألة النسوية في مصر، خرجت أصوات تتحدث عن ضرورة ترتيب الأولويات، أو الحديث عن "اضطهاد معاكس" للرجال، أو السخرية من مقدار ما حصلت عليه المرأة من حقوق، مع بعض الإضافات الحريفة لحكايات شخصية كاذبة في معظمها عن القهر المضاد.
لكن الحديث عن التحرش يأخذ في تعليقاته ومناقشاته منحى أكثر عنفاً وحدّة، يبدو طرفاه وكأنهما تحت مظلة واحدة وهي "لا بدّ من القضاء على التحرش"، ثم تظهر هذه الحدة في ماهيته وأسبابه وطرق علاجه.
تبدأ الأصوات التي تعتنق خطاباً عقلانياً، أو تزاود به، في التأكيد على قبح التحرش وأنه من مشكلات مصر الحديثة، والاستياء الشديد من تموضع القاهرة في المركز الثاني في سلم المدن "الأكثر خطراً على النساء" بعد نيودلهي. لكن عند الخوض في التفاصيل، تظهر علامات لوم للضحية، فتبدأ التفاصيل عن مقدار ما تكشفه أو تغطيه النساء وما يسببه من تحفيز جنسي شرس للذكور، ما يؤدي إلى حالات السعار الجماعية التي توثقها الكاميرات. ثم يزيد الإمعان في لوم الضحية، ويأخذ منحى العتاب على خروجها مع معرفتها الحتمية لحدوث ذلك السعار، وهو تلميح بأن الضحية، ربما تريد مثل هذا النوع من التعدي الجسدي.
ولولا أن الأصوات المضادة تكون في غاية الحدة والشراسة في مثل هذه المواقف، لزاد خطاب "الأصوات المتعقلنة" رجعيةً ويمينيةً حتى تنادي بالفصل الكامل بين الرجال والنساء، وهو مايحدث لكن على نطاق ضيق.
ويتضح العنف ضد الضحية، مؤخرا أكثر في فيديو شديد العنف لرجل مقتول على يد شاب لأنه رفض أن يتحرش بزوجته! قُتل رجل أربعيني له زوجة محجبة لا ترتدي ملابس مستفزة وتمشي في حماية زوجها، الذي رفض التحرش بها فقُتل. ونال الرجل قسماً وفيراً من تعليقات مواقع التواصل التي تلومه لأنه "أخرج زوجته" أو أنه لا بد جعلها تمشي "سافرة تستفز الشباب". وهي المحاولات التي في التحليل الأخير تريد لذلك القبح غير المسيطر عليه أن ينتهي بأسرع حسم ممكن.
أما عن العلة الغريبة بأن الحادثة "فردية" ولا يمكن أن تعمم على حالة يعاني منها المجتمع، فها هو فيديو بنات دمهنور الذي صار نموذج أسبوع العيد ورمزاً لما يحدث فيه.
فحالة السعار الجماعية وجدت فرصة سانحة مع ثلاث فتيات يمشين وحدهن في الشارع، لتتحول جماعات الشبان إلى ضباع، بالمعنى الحرفي للكلمة، وهي التي تصفها موسوعات السلوك الحيواني بأنها "حيوانات ليلية لا تخرج من جحورها إلا بعد المغرب تحت ستار الظلام، تخرج أفراداً وجماعات صغيرة فيسمع عويلها وهي تتجول طلباً للصيد". ثم تأتي التعليقات الأكثر شذوذا في مواقع التواصل بأن الفتيات الثلاث لا بد أنهن ارتكبن ما أهاج كل هؤلاء، وإلا لماذا هاجم الشباب تلك الفتيات بالذات دون غيرهن؟
كل ماسبق، يؤكد، بالضرورة، على أن المسألة النسوية ليست ترفاً أو وقتاً زائداً، ولا هي مدعاة للسخرية المستترة أو المكشوفة، وما زالت قضية بحجم التحرّش تزداد بشاعة يوماً بعد يوم، والمأساة تزداد توحشاً، ثم تتردد المقولات المعلبة نفسها بالحماسة نفسها في كل عيد من دون أن تكون هنالك محاولة لتحليل الظاهرة وعلاجها.
مواجهة حقيقة أن العنف ضد النساء يتخذ أشكالا متعددة نفسية وجسدية ومادية واجتماعية وسياسية، يظهر قبحها الكامل في عمليات التعدي الجماعية كل عيد، وهي الخطوة الأولى على طريق حل هذه المعضلة.
سوف نجد من غرابات ما يحدث في مصر، من هو رافضٍ لما يحدث من تعديات جماعية في المناسبات العامة، ودفاع مستميت عن "شاب التجمع" والفتاة التي صورته. البنت تحولت حياتها إلى جحيم، أما الشاب فقد تحول إلى بطل جديد تجتذبه وسائل الإعلام لاستضافته وتحويله إلى نجم إعلانات وتعرض عليه المشاركة في بطولة فيلم. طالما وُجد ذلك النموذج واحتُفي به، فالتعدي والتحرش لن يغير توحشهم بل ربما يزيده.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها