الثلاثاء 2018/08/21

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

.. واكتشفتُ أن أبي كَتبَ رواية!

الثلاثاء 2018/08/21
.. واكتشفتُ أن أبي كَتبَ رواية!
الصيد في جبال الهرمل
increase حجم الخط decrease
مع أنه كان دائم الإنزعاج مني خلال مراهقتي، بسبب اهتمامي بقراءة الروايات "غير المفيدة والتي لا تحوي معارف جدية"، اكتشفت منذ أشهر قليلة أن أبي شرع مرة في كتابة رواية توثق جزءاً من حياته وأمكنة عيشه في الهرمل، لكنه لم يجد نهايةً مناسبةً لها، ما دفعه إلى تركها جانباً. وقد اكتشفت وجودها منذ أشهر قليلة فقط في بيتنا البقاعي، بعد اختفائها لعقود.
عندما سألته عن سبب انتقاده الدائم لي طالما أنه حاول كتابة رواية بنفسه، برر ذلك بالتغير الذي حصل في أهوائه واهتماماته مع تقدمه في العمر، مؤكداً لي أنه فعلاً أحب الروايات في تلك الفترة، وكان لديه كتّاب مفضلون على رأسهم نجيب محفوظ. 

في كل الأحوال، لم يكن أبي، أستاذ الجغرافيا والمثقف العضوي، كاتباً يوماً، وما عدا تلك التحقيقات المعدودة التي كتبها خلال الحرب لجريدة الحزب الذي كان ينتمي إليه، عقب انتقاله إلى بيروت لفترة وجيزة هرباً من النظام السوري، لم يكتب شيئاً بشكل جدي، كما أن الجيل الذي انتمى إليه في الهرمل والذي يتكون من أساتذة ثانويين وبعض الحزبيين السابقين، لم ينجب كتّاب روايات، أو ينخرط على ما أعرف بإنتاج ثقافي جدي.

ومرد ذلك، على ما أحسب، هو أن علاقة ذلك الجيل اليساري والعروبي في آن، بقيت ملتبسة مع الأدب. فأبي أحب الشعر القديم وقرأ لعدد من المؤرخين العرب، بالإضافة إلى عدد قليل من الأدباء اليساريين، لكنه لم يحب يوماً الروايات الحديثة والشعر الحديث. وأعتقد أن النظرة الدونية للآخرين متوافقة مع تراتبية ذات طابع تربوي وأكاديمي، ترى أن فروع الأدب والعلوم الإجتماعية والإنسانية في مرتبة أدنى من الفروع العلمية الأخرى، وهي مناسِبة للإناث أكثر من الذكور.

بكل حال، عندما بدأت بقراءة الرواية، لم تعد بالنسبة لي منتجاً ثقافياً أريد معرفة سياقات إنتاجه، بل أصبحت وسيطاً لاكتشاف الشخص الموجود وراء الكلمات، والذي لا أعرف عنه الكثير، وهي فرصة لا تتاح بالعادة لكثيرين بالتعرف على أهلهم والسياقات التي ولدوا فيها وتعرفوا على العالم من خلالها، بسبب الحواجز التي توضع في العادة بين الأهل والأبناء، فكما أحسب نحن نعيش ضمن أنظمة تواصلية قاصرة عن السماح لنا بما هو أكثر من الضروري لتسيير حياتنا اليومية. 

فالصراحة ترى كقيمة سلبية أو كدليل ضعف، لا يمكن مشاركتها مع أي كان، وهي ممنوعة بشكل خاص ضمن مجتمعات الرجال التي في تركيزها الدائم على الغرائز والبطولات الرمزية، تشيّد جدراناً بين ما يخرج منها وما يبقى داخلها، وبين المرئي وغير المرئي، ولا يمكن تخطي تلك الجدران سوى عبر وسائط يمكن أن تكون الكتابة إحداها، بما أن لها تلك القدرة العظيمة على تعرية ممارسها، خاصة إن كان كما حال أبي لم يطور أسلوباً بعد، ولا يزال يغرف من ما يتيحه واقعه من قصص، بدون الإعتماد كثيراً على خياله، مقدماً لي ولأخوتي ما يشبه الإعترافات عن نفسه وعن علاقته بأمي، وكثيراً من الأجوبة عن أسئلة طالما طرحتها.

ثم بدا لي بسرعة مع تقدمي في القراءة، أن دافعه للكتابة كان مرتبطاً بمواجهته باباً مغلقاً وجد نفسه أمامه، بعد عشر سنوات من زواجه وإنجابه ثلاثة أولاد. وقد حاول نقل ذلك الواقع إلى الورقة بطريقة تمكنه من تبسيطه، وذلك على لسان شخصيات تخرج من البلدة إلى الجبال المحاذية من أجل ممارسة هوايتها بالصيد، مقدمةً مجموعة من الإعترافات حول الأزمات التي تعيشها، وهي طريقة استطاع من خلالها تفريغ ما يقلقه، عله يجد حلاً له.

طبعاً ليس من الضروري أن يكون تحليلي الأخير صحيحاً، لكن أقله، يعطيني تبريراً للبحث عن شيء يمكنني التقاطه، علّي أكوّن صورة عن الأوضاع التي كان يعيشها أهلي في النصف الثاني من الثمانينات، أي في الفترة التي ولدت فيها، وبذلك ربما أفهم شيئاً عن أحوال العالم الذي عشت طفولتي فيه، والذي يتكون بشكل رئيسي من أب وأم لم يتوقفا يوماً عن الشجار. 

أتحدث عن أمي لأنها العنصر الرئيسي في الرواية التي ستكون المقرر الفعلي لنهايتها الأكثر دراماتيكية غالباً من أي نهاية كانت ستكتب. فقد وجدت الرواية بعد سنوات قليلة من كتابتها، وقرأت ما أورده أبي على لسان إحدى الشخصيات من كلام مسيء لامرأة تتطابق مواصفاتها معها. ما دفعها إلى إخفائها، وإخباره بأنها قامت بتمزيقها كعقاب له على ما كتبه، وقد بقيت الرواية في الظلام لأكثر من ثلاثين عاماً قبل أن نجدها منذ أشهر قليلة فقط. 

لم يكن والداي على وفاق يوماً، لا في الفترة التي كتب فيها الرواية ولا بعد ولادتي. ولم أفهم يوماً كيف تمكن الإثنان من تمضية عمرهما سوياً وهما على تلك الحال، رغم عودة الوفاق نسبياً في الفترة الأخيرة مع تقدمهما بالعمر ومواجهتهما تجارب قاسية مع المرض، ساعدت لا بد في بلسمة بعض الجراح ومسامحة أمي لأبي على ما فعله في ذلك الزمن، ما أدى إلى ظهور الرواية مجدداً.  

وأعتقد أن سوء علاقة أبي وأمي كان المحرك الرئيسي للرواية، أولاً لأن لجوءه للكتابة أتى كرد فعل على وصول عالمهما المشترك إلى باب مغلق بسبب الشجار الدائم وعدم قدرتهما على الإنفصال مع وجود ثلاثة أولاد. وثانياً، لأن العالم الذي تدور حوله الرواية هي الجبال المحاذية للهرمل التي يمارس أبي فيها هوايته بالصيد، وكانت دائماً هامشاً يقصده السكان ومهرباً مثالياً لأبي من أجواء العائلة، وقد وصل في نهاية الرواية إلى حد التماهي مع تلك الأرض وعلى وشك التحول بدوياً، لا أرض أو بيت يعود إليه.

فعند توقف الرواية ما قبل نهايتها، تصل الشخصيات إلى مكان لا رجعة منه، ممهدةً بذلك للنهاية التي يفترض أن تكون انبثاقاً لواقع جديد مختلف عن الواقع الذي بدأ فيه الكتابة، وذلك على ما درجت الأفلام الهوليوودية، التي يبدو أنه اقتبس منها أكثر من اقتباسه من روايات أخرى، ما يظهر في الوصف الدقيق للأمكنة وطريقة الإنتقال من مشهد لآخر، وسرعة التحول الدرامي الذي حدث ما قبل النهاية.

المضحك أننا، نحن أولاده الأربعة، ورثنا منه ذاك الشغف بتلك الجبال، وصرنا نصل إلى الهرمل أحياناً فقط من أجل الصعود إليها، خصوصاً بعدما بنى صهري وأبي منزلاً هناك صرنا نراه جميعاً كمكان بديل عن منزل العائلة الأصلي في البلدة، ونقصده من أجل العثور على بعض الهدوء والراحة التي نفتقدها بالعادة في بيروت أو في الهرمل. 

في أحد المقاطع يكتب: "لم يكن حامد ليصغي دائماً إلى قصص أصدقائه، فرحلاته الجبلية معهم، لم تكن إلا مناسبة للمشي الصعب ولتجديد حركة حياته الرتيبة. لا يعرف بالضبط ما يفعل ليجد نفسه الضائعة أو المشتتة. إنه حزين في داخله، يخبئ حزنه بالصيد...". ثم يضيف في مقطع آخر: "... القرية التي يهرب منها إلى الجبل بقيت ضمنه، حتى بعد زواجه وإنجابه أطفالاً. لم تفهم زوجته طبائعه ورغباته بسبب الغموض الذي يلفه، ولم يحسن هو التعالم معها، فبقيا غريبين عن بعضهما في منزل واحد. وهو يشعر أنه وأولاده أوراق يابسة أو خضراء لا فرق، تتقاذفها الرياح في كل إتجاه". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها