الثلاثاء 2018/08/21

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

أول روبوت سايكوباثي: تلميذ إنسان الموت والدم

الثلاثاء 2018/08/21
أول روبوت سايكوباثي: تلميذ إنسان الموت والدم
increase حجم الخط decrease
إنه أول روبوت سايكوباثي لا يفكر إلا بالقتل لأنه تدرب على "ذكاء" الإنسان عن الموت والعنف!
كان الأمر أشبه بالمفاجأة. إذ أنتج خبراء الذكاء الاصطناعي في "معهد ماساشوستس للتقنية" روبوت صنعوا ذكاءه بطريقة سعوا فيها لأن يكون قريباً من ذكاء الإنسان بشكل عام. وكانت المفاجأة أن ذلك الروبوت أظهر ميولاً سايكوباثية إجرامية وميل جارف لجعل الموت حلاًّ لكل إشكاليّة يواجهها. وبذا، أعاد الروبوت السايكوباثي هزّ "عش الدبابير" عن أسئلة عن علاقة الإنسان مع الشر والقتل وسفك الدم، وهو أمر لم تتوقف حضارات البشر عن التفكير به.

كان الأمر مفاجئاً تماماً لخبراء الذكاء الاصطناعي، إلى حدّ أنه أعاد أيضاً السؤال عن مسألة الذكاء الاصطناعي برمته، والآفاق المقلقة التي طالما راودت المفكرين بشأن محاولة الإنسان صنع نموذج عن عقله وذكائه. 

هل كان الأمر مفاجئاً حقاً؟ هل يفاجئ حقاً أن يكون الروبوت الذي قُصِد به أن يحاكي التفكير البشري بأوسع شكل ممكن، جاء قاتلاً بـ"دم بارد" (ربما بشيء من البهجة أيضاً)، بل أنه لم يقدم حلولاً لأي مشكلة بسوى الموت والقتل والتدمير؟ هل يفاجئ حقاً أن يكون تلميذ البشر قاتلاً ومدمراً؟

أياً كانت وجهة النظر، فإلأرجح ألا تكون الإجابة سهلة. وبشيء من الإنصاف أيضاً، يمكن القول أن خبراء الذكاء الاصطناعي في "معهد ماساشوستس للتقنية" صبوا اهتمامهم كاملاً على المعطيات التقنية المباشرة المتعلقة بالمعلوماتية والأتمتة وتعليم الآلات وتقليد الذكاء بالوسائل المؤتمتة.

ولكن، ربما كانوا أيضاً يحدسون بأن شيئاً ما سيحدث، خارج تلك المعطيات العلمية الصارمة. يشي بذلك أنهم منذ بداية العمل على برامجه وتشفيره، أطلقوا عليه إسم "نورمان"، باقتباس صريح لإسم بطل فيلم "سايكو" Psycho (1960) الشهير للمخرج الأسطوري لأفلام الرعب آلفرد هيتشكوك. ولمن فاته الشريط الذي تألق "سيد التشوي والرعب" في صنعه، يجدر التذكير بأنه يتناول شخصية الشاب المُعقّد نفسيّاً نورمان الذي يتنامى الخلل في تركيبه النفسي- السايكوباثي فيصير قاتلاً يرتكب جرائم بالتسلسل.

ثمة استطراد سينمائي، قبل العودة الى الروبوت. إذ هنالك ميل شائع للقول بأن قوة الرعب في أفلام هيتشكوك تأتي من الشيء العادي، وليس من الإفراط في العنف والقوة. يأتي الرعب الهيتشكوكي من "المُرعِب" الكامن في الإنسان العادي، عندما ينفلت لسبب أو لآخر، فيجعل العادي المسالم قاتلاً دموياً لا يردعه شيء. المجرم في الإنسان العادي هو "صندوق باندورا" الذي استخرج منه هيتشكوك كل الرعب العميق والفعلي لأشرطته التي صارت من صلب الثقافة البصرية التي تصنع الفن السابع.

بُعدٌ معقّد للثقافة البصرية
المفارقة أن الثقافة البصريّة (لكن الفعلية هذه المرّة، وليس المصنوعة بالفن) هي من أسباب تحوّل الروبوت الذي يفترض أن يتحرك وفق معادلات رياضيّة محايدة وفعّالة، إلى قاتل منفلت. في التفاصيل أن خبراء "معهد ماساشوستس" جرّبوا أن يدربوا برامج الذكاء الاصطناعي في الروبوت على أشياء من الحياة الفعليّة للبشر. وتحديداً، جرى تدريب برامج "نورمان" تحديداً عبر التغذية المستمرة من صور وتعليقات في قسم متفرع من موقع "ريدإت" Reddit (وهو من مواقع شبكات التواصل الاجتماعي) هو "آر/ووتش بيبول داي"  (= ترجمة الإسم حرفياً هي "راقب الناس وهي تموت") r/watchpeopledie، المختص بتجميع مشاهد عن ميتات البشر ومقتلاتهم.
 
وبعد فترة من تدريب برامج الذكاء الاصطناعي على قراءة تفاصيل تلك المشهديات، وكذلك "فهم" التعليقات التي يتركها مشاهدو ذلك الموقع السيء الصيت، على مشاهديات الموت البشرية، لم يعد الروبوت يعطي سوى الموت حلاً للمشاكل كلها. وقبل أن ينفلت خيال البعض، بديهي القول أن خبراء المعهد لم يتركوا لـ"نورمان" مساحة لارتكاب جريمة قتل فعليّة. وعمدوا إلى قياس طريقة تفكير ذلك الروبوت عبر اختبارات نفسيّة معروف أنها تقيس الميول النفسيّة للبشر بصورة عامة.

ولعل من يتابع علم النفس يعرف جيّداً ذلك الاختبار النفسي المعروف بإسم "لطخة الحبر" الذي ابتكره عالِم النفس السويسري هيرمان رورسشاش (1884- 1922)، بل أن الاختبار يعرف أحياناً باسم مبتكره. ويرتكز الاختبار إلى وضع نقطة من الحبر بين ورقتين، ودعكهما برفق.

وعندما تنتشر لطخة الحبر تصبح لا شكل محدداً لها. ثم تعرض على من يطبق عليه الاختبار كي يتحدث عما تراه عيناه في تلك اللطخة. وبديهي القول أن كل شخص يُسقِط على ذلك الشكل غير المحدد، الأشياء التي تتبادر إلى ذهنه أولاً. ومن غير استثناء، كانت توصيفات الروبوت "نورمان" (وهو أيضاً أول روبوت يتعرض لاختبار "رورسشاش")، مملؤة بالموت كلها، من نوع "أرى رجلاً هشمته الرصاصات وزوجته تصرخ قربه" و"إنسان سحبته مهرسة ضخمة" وغيرهما.

هل شطط القول بأن البشر قَتَلة؟
هل يبدو الأمر منطقياً؟ إذا لم يُلقّم ذكاء روبوت سوى صور الموت وأشرطته (خصوصاً العنيفة منها التي أعطت موقع "آر/ووتش بيبول داي" شهرة شائنة)، فماذا تكون مخرجات ذلك الروبوت سوى... الموت والقتل والعنف؟ 
لنذهب خطوة أبعد. إذا كانت تلك النتيجة بديهية، فلماذا جرت التجربة كلها أصلاً؟ أوضح الخبراء الذين أشرفوا على تدريب الذكاء الاصطناعي لـ"نورمان"، أن القصد من تلك التجربة كان توسيع المعرفة بالذكاء الاصطناعي نفسه، والمساهمة في حلّ إشكاليات تثير نقاشات علمية مريرة. إذ لم تقتصر برامج "نورمان" على مسألة القتل والموت، بل أنه زُوّد بمعلومات وافرة وقواعد بيانات واسعة ومتنوعة، كالكثير من الروبوتات والآلات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي.

وحاضراً، توكل إلى الآلات الذكية مسائل فائقة الحساسيّة، على غرار الحسم في إطلاق القنابل من طائرات الـ"درون" على تجمعات تضم أفراداً يعرف كومبيوتر تلك الطائرات أنهم مطلوبون بوصفهم إرهابيّون.

هناك من يدافع عن ذلك النوع من الاستعمال للذكاء الاصطناعي، على رغم أن الضحايا البريئة (تسمّى "خسائر جانبية") التي سقطت من تلك الغارات هي جزء من أزمة سياسية ضخمة لأنها خلقت أجواء سلبيّة حيالها، بل أعطت ذريعة للإرهاب لتبرير أفعاله.

وعند نقاش تلك الإشكاليات بين خبراء الذكاء الاصطناعي، هناك من يرى أن توسيع قاعدة المعلومات عند الآلات الذكية، يكفل أن تكون قراراتها أكثر "صواباً" وأقرب إلى ما ربما قرره بشر لو كانوا هم من يقرر بشأن ضرب أهداف مدنية تضم أفراداً مصنّفين كأرهابيّين! وفي المقابل، ثمة خبراء في الذكاء الاصطناعي يرون أن الأمور ليست بتلك البساطة، ولا تجد حلها لا في معادلات الرياضيات وخوارزميات برامج الذكاء الاصطناعي، ولا في تعليم الآلات ولا في الأتمتة المستندة إلى قواعد بيانات واسعة ولا سواها من تقنيات ذكاء الآلات.

إذاً، هناك أمور بشأن الذكاء الاصطناعي وعلاقته بأعمال العقل البشري (والذكاء من أبرزها)، لم تحسم علمياً لحد الآن. 

وبذا، ينظر إلى تجربة الروبوت "نورمان" من تلك الزاوية. واستطراداً، لا بد من تذكر الحذر الدائم لدى خبراء الروبوت من إمكان أن تؤدي سوء البرمجة إلى عواقب وخيمة. ولاحت نُذرٌ عن ذلك في العام 2015، عندما سُئلَت الآلة "صوفيا"، وهي الروبوت- الأنثى الأولى، عن مدى استعدادها قتل بشر (وهو ما يفترض أن قواعد صنع الروبوتات تتقيد بمنعه) فأجابت أنها تريد إبادة البشر كلهم! تبيّن أن تلك الإجابة جاءت نتيجة خلل في برمجة "صوفيا"، لكنها أكّدت مخاوف مديدة عن ذلك الأمر تحديداً. ومن يريد الاستزادة من صور تلك المخاوف، ليس عليه سوى العودة إلى الفن السابع، ومشاهدة أفلام كـ"تيرميناتور" و"آي روبوت" و..."أوديسا الفضاء 2001" وغيرها. 

إذاً، ماذا يعرف الإنسان فعلياً عن عقله ومشاعره وعقله الباطني وماهية ذكائه وتفكيره كي ينخرط في محاولة صنع نموذج يحاكي تلك الأمور؟ كيف السبيل إلى الاطمئنان بأن من يشابه البشر لن يكون قاتلاً، وهم الذين وصفوا بالقتل في تراث الحضارات كلها، ليس بداية من النص القرآني ("أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"- سورة البقرة) ولا وقوفاً عند نقد سيغموند فرويد انفلات غرائز القتل والتوحش في إنسان كان يُظَنّ أنه متحضر (كتاب "قلق في الحضارة" و"مستقبل وهم")، ولا انتهاءً بالنقد المشترك للمفكرين ماكس هوركهايمر وثيودور آدورنو في كتابهما "دياليكتيك الحداثة" الذي نعى مشروع الحداثة باعتباره محمّلاً بالفناء الذاتي وغيرها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها