الإثنين 2018/08/13

آخر تحديث: 17:24 (بيروت)

الجامعة اللبنانية.. إله من تمر

الإثنين 2018/08/13
الجامعة اللبنانية.. إله من تمر
انجازات الرئيس فؤاد شهاب تتهاوى فيما يتحول لبنان شركة كبيرة
increase حجم الخط decrease
لم تدم فرحة ابنة صديقي بحصولها على نتيجة مشرّفة في نتائج البكالوريا أخيراً، أكثر من ثلاثة أسابيع، قبل أن تنقلب احباطاً. فوالدها، الموظف البسيط في إحدى الإدارات المحلية،  والمعيل لأربعة أولاد، لا يسعفه وضعه الاقتصادي لإدخال ابنته الى جامعة خاصة. وهي، نتيجة الشائعات التي ترددت أخيراً حول شهادة الجامعة اللبنانية، وجدت نفسها في مأزق. وتسأل: "هل سأقضي أربع سنوات عبثية لن تمكنني من الحصول على أي وظيفة؟"
ابنة صديقي، واحدة من مئات اللبنانيين الذين يساورهم الشك حول مستقبل الجامعة الوطنية. في الواقع هي جامعة الفقراء، وجامعة الطلاب الكادحين لتحصيل شهادة علميّة لا يمكن الحصول عليها من غير تعب وجهد، وأولاد كادحين يجدولون حركة أولادهم باتجاه الجامعة بحسب المتوفر والميسّر من إمكاناتهم المادية لدفع بدل التنقل الى الكليات. 

طلاب اللبنانية، هم كادحون من أولاد كادحين، بمعظمهم، كُتب عليهم الشقاء والإحباط. أولاً، بسبب منسوب الجهد لاجتياز مرحلة جامعية يجمعون على أنها صعبة. وثانياً، بسبب شائعات تتحدث عن عدم اعتراف أوروبي مستقبلي بشهادة الجامعة الوطنية، وهو ما نفته الجامعة في بيان، الأسبوع الماضي، ولم تعقب عليه بعثة الاتحاد الاوروبي نظراً إلى أنها غير معنية بتلك الأنباء، بما يحمل نفياً ضمنياً لما تم تداوله. 

على ضفة الحدث، يتراءى مشهدان متناقضان. جامعات تفرّخ بمسميات متشابهة، وآلاف اللبنانيين، ومعظمهم من الفقراء، الذين يساورهم الشك بمستوى الجامعة الوطنية، تلك التي يجمع الطلاب وحملة الشهادات على أن النجاح فيها "صعب" و"يحتاج الى جهد كبير"، ما ينفي، قطعاً، معاقبتهم بعدم الاعتراف بشهادتهم بسبب المستوى التعليمي أو بسبب المنهاج المتبع. وفي الاصل، لم تتحدث التحقيقات أخيراً بشأن ملفات تزوير الشهادات عن الجامعة اللبنانية اطلاقاً. على العكس، طاولت جامعتين يديرهما القطاع الخاص. وكم من جامعة اُقفلت "على السكت"، وتغيّرت أسماؤها واداراتها وملكياتها، خلال السنوات العشرين الماضية، لأسباب لم يُكشف عنها، بينما لم تطاول تلك الزوابع الجامعة الوطنية. 

و"اللبنانية"، هي الصرح التعليمي الأخير المتوفر للفقراء، في بلد يتحول تدريجياً الى شركة كبيرة. انتهى النقل المشترك، وتوقفت قروض الاسكان، وتدهورت المدرسة الرسمية التي تحتل المرتبة الثانية في سلم أعلى النفقات في الموازنة العامة للدولة (1719 مليار ليرة موازنة وزارة التربية والتعليم العالي في العام 2017). ولم يبقَ من إرث الرئيس الراحل فؤاد شهاب إلا الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي ما انفك يصارع للبقاء، قبل أن تُعتصر نفقاته ويُجبر اللبناني على الانضمام مرغماً الى شركات تأمين خاصة توفر عليه المذلة عند أبواب المستشفيات. 

من هذه الزاوية، تُقرأ الهجمات على الجامعة اللبنانية. ولم تنفها الرئاسة في بيان اصدرته نفت فيه الشائعات حول مستقبل الاعتراف بشهادتها. قالت إن المنفعة تعود الى الجامعات الخاصة. وتلك الجامعات التي بدأت تنافس بأسعارها، ولم يبذل جزء منها جهداً للانضمام الى رابطة الجامعات في لبنان التي تضم 19 جامعة من أصل أكثر من خمسين نالت رخصة للعمل على الأراضي اللبنانية. 

وعليه، فإن زرع الشكوك في الجامعة، يقرأه الفقراء كمؤامرة على مستقبل أولادهم التعليمي، وإرغام على انهاء آخر صرح جامعي، لا شك أن بعض المحسوبيات نخرت هيكله، مثل جميع مؤسسات الدولة، وتدخلت الأحزاب فيه، مثل كل إدارات الدولة. ومارست أطراف سياسية سطوتها عليه، مثل كل قطاعات الدولة. وتعرضت أبنيتها، كما أساتذة فيها، لبلطجة الميليشيات، مثل كل زواريب الدولة التي انهارت في الحرب، ولم تلتقط أنفاسها بعد بسبب السطوة المستمرة. فالجامعة، لا تزال أفضل بكثير من أركان هيكل رسمي مهترئ، ولو أنها جزء منه، يتشابه مع بعض المستشفيات الحكومية والإدارات الخدمية، ويقول المسؤولون أنفسهم إن الفساد ينخره. وبدلاً من تصحيح الشوائب، بمهام مكافحة الفساد، يمعنون في طعن جسده، ليموت به الفقراء.

هناك اشخاص غير مهنيين في الجامعة؟ نعم. مثل كل القطاعات في لبنان، الرسمية وغير الرسمية، هناك وجود لمثل هؤلاء. هم جزء من "سيستم" لبناني أفرزهم، وأداء سياسي حافظ على وجودهم. ويتواجد هؤلاء حتى في بعض الجامعات الخاصة. في كل المواقع، ثمة منتفعون ودخلاء ومحسوبيات. حتى في الحكومات، لم يكن كل الوزراء ضليعين بوزاراتهم. وإذا كانت الحصة السياسية تفرض وجود فلان ممثلاً لفلان في الحكومة، فإن الإدارات الرسمية لن تكون بعيدة من النمط القائم الذي يتحدى محاولات الاصلاح لأسباب أصبحت أكبر من قدرة اللبنانيين وحتى السياسيين على التصحيح، وذلك في عملية تحويل لبنان الى إله من تمر، يأكله عبّاده حين يجوعون للسلطة والمال. 

ثمة صنفان يتحدثان عن الجامعة وينتقدان أداءها اليوم. تجار يطعنون فيها، يقولون كلام حق يُراد به باطل. وغيارى على صرح وطني شاركوا في إعلاء قيمته خلال ربع القرن الماضي. الصنف الأول يشارك في عملية تحويل البلد الى "الشركة الكبيرة".. والثاني يندب حفاظاً على حق البسطاء بالتعليم. هذا الصرح، إذا انتهى، ستتعزز الطبقية الأكاديمية، ويعود الإقطاع الثقافي والتعليمي.

فالفقراء الذين يعولون على تحصيل جامعي للخروج من بؤسهم، ستنتهي السُبُل بهم موظفين أو كادحين أو ساجدين على حذاء الزعيم لاستجداء وظيفة. حقهم في الحياة، توفره الجامعة اللبنانية فقط. وأنا، مثل كثيرين، فخور بأني خريج الجامعة اللبنانية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها