الإثنين 2018/07/23

آخر تحديث: 19:13 (بيروت)

"العهد القوي"..حربٌ على الفساد أم على منتقديه؟

الإثنين 2018/07/23
"العهد القوي"..حربٌ على الفساد أم على منتقديه؟
أيها المواطن الصالح انتبه، فنحن لك بالمرصاد (غيتي)
increase حجم الخط decrease

في الوقت الذي يُطالب الرئيس ميشال عون الشعب بالتعاون مع أجهزة الدولة لإنجاح حملة محاربة الفساد، انطلاقاً من اعتباره أنّ إنجاز الإصلاح الشامل يستوجب تضامن الشعب مع دولته بالوقوف بمواجهة الفساد، نرى انشغال الأجهزة الأمنية بجرجرة منتقدي الفساد والمحتجين على المتورطين فيه إلى مراكز التحقيق لديها، واحداً تلو الآخر، في مشهد تتجلى فيه الشيزوفرانيا اللبنانية بأوضح حالاتها.

فكيف للدعوات المحمومة لمحاربة الفساد الصادرة من الدولة أن تُستهل بممارسة الدولة بذاتها للقمع والترهيب، الذي لطالما كان العنوان والغطاء لكل الموبقات، والمؤشر الأساس الذي يدلّ على: إما سيادة القانون واحترامه وإما الانتقائية والاستنسابية التي تكون الغلبة فيها للأقوى وتطمس فيها العدالة، حيث يصبح التمييز هو الغالب على السمة العامة في التعامل مع قضايا الناس.

تتوالى الارقام القياسية وتتصاعد في مجال الترهيب والاعتقال، الذي أضحى سمة من سمات العهد الجديد منذ انطلاقته. فخلال الأسبوع المنصرم وحده تم استدعاء صحافية و4 ناشطين إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية على خلفية منشورات في "فايسبوك"، كان آخرهم الشاب إيلي الخوري، الذي نشر رسالة توجّه فيها إلى الرئيس عون، قائلاً  "فخامة الرئيس الإصلاح يبدأ من رأس الهرم وليس من أسفله"، واستعرض فيها معاناة الشعب اللبناني التي تفاقمت في ظل العهد الجديد، مضيفاً "يا فخامة الرئيس نحن بحاجة إلى رئيس يحبّ بلده وشعبه أكثر من حبّه لأبنائه وأصهرته". ليعقبه بعد ساعات استدعاء الخوري إلى التحقيق  في مكتب  مكافحة جرائم المعلوماتية على خلفية ما نشره. ما أوحى بأنّ الدولة وأجهزتها تضجّ نشاطاً وحيوية وفعالية فقط في مراقبتها لعد الأنفاس ورصد أي صوت أو حركة، لتتمثل جهوزيتها بالتدخل السريع وفي أي لحظة، مقابل المواطنين الذين قرروا  رفع صوتهم ليكون مسموعاً أو أن يقوموا بأي مبادرة فعالة، ليأتي ردّ أجهزة الدولة سريعاً، أيها المواطن الصالح انتبه، فنحن لك بالمرصاد.



المتابع للمؤشر البياني لمسار الملاحقات والاستدعاءات في الآونة الأخيرة، يلحظ بسهولة أن الأجهزة الأمنية تتحرك ضدّ الناشطين والصحافيين في معظم الأحيان بسرعة قياسية في أي لحظة يتم فيها توجيه اي نقد للعهد، أو أي مساءلة وإشارة تطال وزير الخارجية جبران باسيل، حتى لو اقتصر الأمر على الدعابة والسخرية. ويتبيّن في تفاصيل محاضر الاستدعاءات والحيثيثات التي تملأ صفحاتها، أن العقلية الأمنية لناحية التدخل في أبسط التفاصيل التي تتعلق بالنقد المغاير لوجهة نظر العهد ونهجه في التعاطي، باتت مهيمنة وطاغية، وتتضخم أكثر في حالة نشوب الأزمات السياسية.

وهذا ما يجعل الانقضاض على الناشطين من خلال ترهيبهم والسعي لكم أفواههم رسالة للصحافيين والسياسيين المناوئين، مفادها أن الانحراف عن بوصلتنا وتوجهنا العام له عقاب وعواقب، فإما الرضوخ وإما العصا. وهذا المنطق بالذات هو استنساخ للتعدّي على الحريات التي دأبت عليه ديكتاتوريات المنطقة وأنظمتها، ما يضع لبنان على سكّة النظام السوري والمصري الذي يتخذّ من الحرب أو حالة الطوارىء حجّة لقمع الحريات وكمّ الأفواه، وهو ما يفسر التفنن بأساليب الترهيب والتخويف، التي بدأت تصبح لازمة مترافقة لأي نقدٍ يطال الرئيس والرئاسة وحلفائهم المقربين.

الاستدعاءات لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في السابق، عادة ما ترافقت مع تهم تستند إلى مواد واردة في قانون المطبوعات، من قدح وذم وتحقير وتشهير أو ما شابهها. إلا أنّ هذا القانون لا يشمل أو يلحظ التعليقات والمنشورات في مواقع التواصل، الأمر الذي يجعل من أي ملاحقة لأي ناشط من خلال تعبيره عن رأيه في هذه الوسائط خارج اختصاص هذا القانون. إلا أنّ الأجهزة الأمنية لطالما استندت إليه لمحاولة شرعنة ملاحقاتها واستدعاءاتها للصحافيين والناشطين وأصحاب التعليقات في مواقع التواصل.

لكن المفارقة حالياً، تتمثل بتسريع وتيرة الملاحقات وكثافة عددها مقارنة بالسابق، دون الأخذ بالاعتبار هذا القانون غير الصالح لمثل هذه الحالات في الأساس ودون أي تبرير أو مسوّغ يوضح سبب الاستدعاء في كثير من الاحيان، وهو الأمر الذي حصل مع يوسف عبد الله، ابن الـ15 عاماً، الذي تم احتجازه لمجرد وضعه صورة بروفايل في "واتس اب"، الأمر الذي اعتبرته الجهات الأمنية يُشكّل تعدياً على الرئيس عون والتيار الوطني الحر، ليستتبعه توقيف محمد عواد، دون أي تهمة أو توضيح أو تبرير ليصار إلى إجبارهما لاحقاً، بعد التحقيق معهما، على توقيع تعهدات تمنعهما من التعرض للزعامات السياسية.

هذه الاستدعاءات والتوقيفات أرخت بظلالها على المشهد العام، وتركت انطباعاً في نفوس المواطنين بأنّه يُمنع عليهم الادلاء بأي تعبير حر أو أي نقد سياسي، في الوقت الذي كان العهد ومنذ بدايته، وصولاً للانتخابات النيابية، يُطلق التصاريح والعهود للانفتاح على النقد والمساءلة، الأمر الذي خلق هوّة شاسعة بين الوعود وتطبيقها، إذ ازدادت الصورة قتامة وازداد الأفق حلكة، وهو ما دفع مجموعة من الناشطين والصحافيين للدعوة إلى اعتصام سلمي الثلاثاء في ساحة الشهيد سمير قصير، تحت شعار "ضد القمع"،  لرفع الصوت عالياً ضدّ توقيف صحافيين وناشطين لاسباب تتعلق بآرائهم ومواقفهم من الطبقة السياسية الحاكمة ومن ملفات الفساد المتراكمة.

هذا التحرّك لأجل الحريات حلقة مترابطة في سلسلة مسار الدفاع عنها، وهو نهج نضالي لا يمكن أن يخفت أو يخبو رغم ضآلة الأمل. لكن التجربة أثبتت أن قضية الحريات لم تنتصر إلا في حالة التكاتف وممارسة مزيد من الضغوط على أكثر من مستوى، ومع أن الإعلام يبقى رأس الحربة فيها، لا يمكن تفعيلها الا بالتعاضد والعمل النقابي والسياسي والحزبي والشعبي. وليس من المقبول أن تمرّ التعديات على الحريات بشكل عابر، وأن تصبح خبراً ثانوياً على الشاشات وفي الصفحات. وليس من المقبول أيضاً التعاطي مع الحرية بالأمن، الأمر الذي قد يجعل من لبنان دولة بوليسية يسقط عنها الهدف الأسمى الذي لطالما تغنينا بتمبزه عن الدول المحيطة به.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها