الإثنين 2018/07/02

آخر تحديث: 18:09 (بيروت)

محمود.. طفل شرّدته "الدولة السورية" وستخفيه من مواقع التواصل

الإثنين 2018/07/02
محمود.. طفل شرّدته "الدولة السورية" وستخفيه من مواقع التواصل
increase حجم الخط decrease
طفل متشرد، مشرفون أشرار في ملجأ للأيتام، خوف ورعب وبحث عن الأمان وسط الحرب. ما يبدو هنا جملاً تلخص رواية لتشارلز ديكنز، ليس إلا جزءاً من مقطع فيديو متداول لطفل سوري - فلسطيني، قتل أهله في مخيم اليرموك وتشرد في شوارع العاصمة دمشق بعد ضربه من قبل المشرفين على مراكز الإيواء الرسمية. ليكسر الصورة "المثالية" التي يحاول النظام السوري ترويجها للحياة في سوريا بعد الحرب.


صوّر المقطع من طرف أشخاص سوريين يحاولون، حسب قولهم، مساعدة الطفل بنشر قصته وانتشر على نطاق واسع. وحسب المعلومات المتداولة اسم الطفل هو محمود يوسف أحمد من مخيم اليرموك ووالده متوفى وليس له معين، وبات ينام كل يوم في منطقة جسر الرئيس في مدينة دمشق ويتواجد يومياً في منطقة البرامكة وسط العاصمة دمشق.

لكن الطفل نفسه لا يبدو مصدقاً بأن هناك عدالة وحباً أو عطفاً تبقى، فيغالب دموعه من دون أن يبكي، وكأنه أيقن أن الدموع لن تفيده بعدما بكى طوال سنوات من الحصار والقصف، ويتحدث بقهر العالم كله ولا ينظر للكاميرا التي تتربص به، بل يتحدث محدقاً بالفراغ بنظرات جوفاء يحركها الخوف واليأس. ولا يمكن تخيّل ما عاناه الطفل المسكين طوال سنوات عمره القصيرة على هامش الحياة، حيث حاصره الموت والعنف ولاقاه الرفض من الكون برمّته، حتى بات على هذه الدرجة من الانكسار.



تظهر الصورة القاسية بوضوح الانهيار الاجتماعي في سوريا التي مزقتها الحرب، فإلى جانب الأطفال المشردين الذين يتسولون في الشوارع والذين تتكرر صورهم بكثافة منذ العام الماضي، ازدادت نسبة الطلاق حسبما تشير تقارير ذات صلة بسبب الحرب التي فرقت العائلات. كما تغيرت ديموغرافية المجتمع مع تهجير ملايين المواطنين السنة تحديداً من البلاد، وعدم رغبة النظام في عودتهم، وترهيبهم في البروباغندا الرسمية، سواء بالاعتقال أو التجنيد، كحالة الأطفال في الداخل السوري تماماً، فضلاَ عن فرض قوانين تبيح استملاك ممتلكات المعارضين واللاجئين (القانون 10).

وأشارت تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" في وقت سابق من العام الجاري، إلى أن أطفال سوريا الذين نشأوا خلال الحرب يعانون من الإصابات الجسدية ومن سوء التغذية فضلاً عن الصدمات النفسية. ولا يبدو هناك أي بارقة أمل لتحسن أحوالهم"، خصوصاً أن العام الماضي كان الأسوأ على الإطلاق من ناحية مقتل الأطفال في البلاد، بنسبة تزيد عن 50 في المئة عن العام 2016، فضلاً ارتفاع عدد الأطفال المجندين ثلاثة أضعاف عن العام 2015. كما يواجه أولئك الأطفال تهديدات بانتهاكات متزايدة بما في ذلك العمل القسري والزواج الإجباري وندرة الغذاء والحد الأدنى من الوصول إلى الصحة أو التعليم.

والحال أن الحرب تركت أثرها على الطفل المسكين في الفيديو، مثلما تركت أثارها على ملايين السوريين الآخرين. المشهد المؤلم كحالة فردية يمكن تعميمه وتذكر العديد من الحالات المشابهة، في الداخل السوري وفي مخيمات اللجوء مثلاً، وإن كان الملايين شوهوا وباتوا يعيشون صدمات نفسية وأحزاناً بعدما فقدوا أشخاصاً أعزاء مثلاً، يستمد الفيديو أهميته وقوته من كشف الزيف الذي يروج له النظام عن "سوريا الأسد" بعد الحرب كمدينة فاضلة لا شرور فيها إلا من طرف "الإرهابيين" و"المعارضين" و"دول المؤامرة"، ويظهرها بلا رتوش "ديموقراطية" يحاول النظام الإيحاء عبرها القول أن "المعارضة الإرهابية" هي المسؤولة فقط عن ترهيب المدنيين في بيئات النظام الموالية، ضمن حرب المصطلحات الثقافية التي بات النظام بارعاً فيها مؤخراً.

ويتزامن الفيديو مع عدد من المشاريع التي روج لها على المستوى الاقتصادي، فضلاً عن "مبادرات مدنية" تظهر البلاد وكأنها دولة أوروبية متحضرة، مثل "الحديقة التبادلية للكتب"، أو "سوق الأكل" المجاني وكرنفال "الشام بتجمعنا" وغيرها من فعاليات ليست ترفيهية أو مجانية بقدر ما تظهر النظام كمنتصر "متحضر" أمام العالم بدلاً من حقيقته كنظام شمولي مسؤول عن الكارثة الإنسانية في البلاد طوال السنوات الماضية.

بالتالي، سيسعى النظام في الأيام القادمة بلا شك، لضخ معلومات تعاكس الفيديو الذي يشوه صورته، بالقول أن مؤسسات "الدولة السورية" المعنية باتت على علم بالطفل من أجل الاهتمام به، وستختفي صورته بالتالي من مواقع التواصل بسرعة مثلما انتشرت، وسيصبح رقماً يعاني من الإهمال في مراكز الإيواء مع التأكد من أنه لن يهرب مجدداً من القسوة التي سيعامل بها. لأن وجود مثل هذه القصص في الإعلام ينسف استراتيجية أطلقها النظام مع حليفه الروسي العام الماضي، لإعادة صياغة النقاش الإنساني الدولي حول سوريا، ونقله بعيداً عن التركيز على رفع دعاوى قضائية بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الرئيس السوري بشار الأسد بتجويع مئات الآلاف من المدنيين في المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة، وقتله الآلاف وتسببه بأزمة لجوء هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.

ويجب القول أن نظام الأسد لا يركز على تعافي المجتمع بقدر ما يريد مكافأة الموالين من عناصر المليشيات وإرضاء حلفائه الخارجيين ومعاقبة معارضيه. فمراكز الإيواء تحولت فوراً إلى مراكز كبيرة للاعتقال والتجنيد الإجباري يتبارى فيها مقربون من النظام على إذلال المستضعفين فيها، بدليل الصور المسربة لتلك المراكز بعد سيطرة النظام على الغوطة الشرقية قبل أشهر. ومن المتوقع أن تزداد الأزمة الاجتماعية في الداخل السوري في السنوات القادمة حسبما تشير تقارير غربية.

وفيما أقر برلمان النظام، الشهر الماضي، قانون رعاية مجهولي النسب، بإعطائهم الجنسية السورية وتربيتهم كمواطنين "مسلمين"، يظهر التفاعل مع الفيديو الجديد أن الاعتراضات الكبيرة من طرف البيئة الموالية للنظام على القانون، لم تكن مجرد كلمات تتردد بغضب على مواقع التواصل، فمازال الموالون المتضررون من الحرب والراديكاليون منهم، ينظرون إلى أولئك الأطفال كمشاريع إرهابيين أو نتيجة لـ "جهاد النكاح"، أو متحصلين على فوائد اقتصادية مزعومة (الرعاية الاجتماعية) لم تتحصل عليها عائلات جنود النظام أنفسهم.

وفق ذلك، تصبح القسوة الممارسة من طرف موظفي النظام من غير العسكريين أو الموالين ضد المدنيين الآتين من مناطق المعارضة سابقاً، بما في ذلك الأطفال في مراكز الإيواء، مبررة وطبيعية بوصفها قصاصاً "عادلاً"، كحالة الطفل في الفيديو، الذي تعطي كلماته إحساساً بأنه يدرك أنه يتعرض لذلك العقاب، بلا اقتراف ذنب سوى ولادته في الطرف الخاطئ من المعركة، جغرافياً. وهذا الإحساس بالظلم قد يتطور جمعياً نحو اضطرابات لا يمكن التملص منها، وقد يكون ظلماً مختلفاً عن المظالم الأخرى التي راكمها النظام طوال عقود حكمه للبلاد، والمتعلقة بجوانب سياسية واقتصادية، حركت الثورة السورية السلمية العام 2011.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها