الإثنين 2018/07/16

آخر تحديث: 18:51 (بيروت)

فرنسا الجديدة

الإثنين 2018/07/16
فرنسا الجديدة
اليوم بات على ماكرون أن يُترجم هذا الانتصار سياسياً (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أطاح الصباح التالي على فوز فرنسا بكأس العالم، مجموعة السجالات والانقسامات التي سبقت الحدث التاريخي. فالانتصار الكبير الذي حققه المنتخب الفرنسي لبلاده، جعل فرنسا تظهر موحدة على مستويات عديدة، سياسية واجتماعية واعلامية، بعدما تمخّض الفوز عن مشهديات سادت الساحة الفرنسية، وصفتها صحيفة "لوموند" بأنها لحظات ثمينة ونادرة، خفتت فيها جميع الأصوات، ليعلو فوقها فقط صوت النصر والفرح والتفاؤل والسعادة اللامتناهية.


هذا الفرح الغامر وهذا النصر للجميع، عبارة أجمعت عليها وسائل الاعلام الفرنسية التي توحدت بخطيها اليميني واليساري ومختلف انتماءاتها، بعدما رفعت لواء النصر الذي انعقد للجمهورية وشعبها بكافة أطيافه ومختلف ألوانه. فالحلم المنتظر تحقق، "بكثير من الجهد والدموع والمعاناة من أجل إيصالنا لمثل هذه اللحظة من التوحد والتضامن"، بحسب "لوموند" في افتتاحيتها اليوم الإثنين. فيما وزعت "لوفيغارو" و"لوباريسيان" عبارات الشكر والتقدير للمدرب ديدييه ديشان، الذي وصفته بالبطل، بعدما أثبت جدارة عالية من خلال إدراة المنتخب وانتقاء تشكيلته وضمّه أفضل اللاعبين إليه، وليس كيليان مبابيه سوى أسطع مثال على ذلك.

مشهد اللاعبين الفرنسيين وهم يحتفلون، أمس، بفوزهم بالكأس للمرة الثانية، أعاد الذاكرة 20 عاماً إلى الوراء، حين فازت فرنسا بمونديال 1998 الذي أقيم على أرضها، وقد نُسب الفضل بالانجاز الكروي العظيم الأول حينها إلى قائد المنتخب زين الدين زيدان، الآتي من أصول جزائرية، ما أحيا عبارة اشتهرت حينذاك بأن "ألوان العلم الفرنسي تحولت من الأزرق والأبيض والأحمر، إلى الأسود والأبيض والزبدي (وهو المصطلح الذي يُطلق على العرب في الغرب،) Black White Butter. وعاد ليطفو اليوم على السطح بعدما عاد الاعلام الفرنسي إلى ترداده، من منطلق اعتبار الفوز بالمونديال الروسي، انتصاراً يُسجّل بفخر للنموذج الفرنسي القائم على التنوّع المتداخل بين أعراق الفرنسيين، والذي تُشكّل كرة القدم مرآة تعكس ما يشتمل عليه هذا التنوّع. ففي حين أن بطولة 1998 شهدت وجود 13 لاعباً من المهاجرين في قائمة المنتخب، تقدمهم حينها زين الدين زيدان، باتريك فييرا، ليليان تورام وغيرهم، ينضوي بين صفوف المنتخب الذي فاز اليوم بكأس العالم 17 لاعباً من أبناء المهاجرين من أصل 23 يشكّلون قوام الفريق، وبنسبة 75% منه.


النصر الذي حققه أبناء المهاجرين بالدرجة الأولى من لاعبي المنتخب الفرنسي سيلقي بظلاله ويترك أثره البعيد في المجتمع والاعلام الفرنسي، الذي كان غارقاً في الفترة السابقة في السجال واحتدام الرأي المتمحور حول قضية المهاجرين، ومدى الانقسام الذي أحدثته في الداخل الفرنسي، حيث بلغ أشدّه عقب تدشين وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي، فيديريكا موغيرني، مقري بعثة الاتحاد والبعثة الاوروبية لمراقبة الحدود للحد من ظاهرة الهجرة إلى القارة العجوز.

هذا الامر أبرز حجم الخلافات والتفاوت في المواقف تجاه هذه الخطوة، ولا شكّ في أنّ الفوز بالكأس سيساهم في تغيير طبيعة هذا النقاش، لجهة تعويم ودعم الموقف المدافع عن وجود قضية المهاجرين ووجودهم ومدى أهميتهم ودورهم الايجابي في المجتمع الفرنسي على مختلف الصعد، خصوصاً أنّ ظاهرة بروز لاعبين من أبناء المهاجرين لأوروبا في المونديال الروسي لم تقتصر على فرنسا. بل طاولت المنتخب البلجيكي الجار الذي يضم في صفوفه 11 لاعباً من المهاجرين، والذي كان مرشحاً بقوة للوصول إلى المراكز النهائية، وحصد بالفعل المركز الثالث عقب إطاحته منتخب بريطانيا القوي الذي بدوره ضمّ لاعبين من أصول غير أوروبية، كان لهم دور بارز في إيصاله إلى المربّع الذهبي في المرة الأولى منذ 28 عاماً. إضافة إلى المنتخب السويسري، الذي أجمع محللون ونقاد على أدائه المتميّز في المونديال، الذي أشرك فيه 13 لاعباً تنحدر أصولهم من دول البلقان وأفريقيا. ولا تقف اللائحة عند هذا الحد، فالمهاجرون كان لهم دور وبصمة في معظم الفرق الاوروبية التي شاركت في المونديال.

وسائل الإعلام الفرنسية المحسوبة على اليمين المتطرف كانت ساهمت، طوال سنوات، بتشكيل صورة عن المهاجرين من خلال تركيزها على نعتهم بالقتلة والمغتصبين والسارقين ومخالفي القانون، ما يستلزم العمل، من وجهة نظرها، على منع وصول أي من أشباههم إلى فرنسا والتحريض على المقيمين منهم من خلال مراقبتهم والحد من خطرهم. وذلك في مقابل رأي آخر يعتبر أن الكثير من مجتمع المهاجرين استطاع فرض كفاءته ونجاحه وحضوره بقوّة، من خلال وصوله إلى أعلى المناصب السياسية والتنفيذية بالدولة، ما ساهم إيجاباً في دعم اقتصاد فرنسا بطرق عديدة.

لكنّ النقد كان يعلو دائماً في مواجهة هذا الرأي في كلّ مرة تشهد فيها فرنسا أو دول الغرب موجات هجومية إرهابية، مثل تلك التي تعرضت إليها باريس العام 2015، والتي اعتبر كثيرون بأنها باعدت بين شرائح المجتمع الفرنسي وخلقت شرخاً بينهم على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، ما فرض واقعاً تجلّى في ارتفاع منسوب الخطاب الاعلامي المعارض لوجود المهاجرين، الذي كرّس جزءاً من جهده لشيطنتهم، والمسارعة بتوظيف أي حادث له دلائل إرهابية بإطلاق اتهامات استباقية ضدّهم وتطويعها لغايات سياسية. وهو ما تجلّى بتقدّم المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان، المعروفة بتوجهها اليمني المناهض للهجرة، من خلال حصولها على 35% من أصوات الفرنسيين في انتخابات الرئاسة العام الماضي، بعدما كانت هذه النسبة لا تتعدى 17% العام 2002، حين تقدّم والدها، جان ماري لوبان، للانتخابات وشهد سقوطاً ذريعاً وقتها.

احتشاد الفرنسيين بكل ألوانهم، الأحد، في ساحات باريس، صارخين بعبارات الاعجاب والود تجاه نجوم منتخبهم ذوي الاصول الافريقية العربية، موازاةً مع تعليقاتهم في مواقع التواصل التي تدلّ على الامتنان والاعجاب والافتخار، حمل معاني ودلالات تلقي الضوء على صورة المشهد العام في المستقبل الفرنسي المنظور، إذ بدا مؤشراً للتقبل والتعامل الايجابي تجاه المهاجرين، الذين يرجع إليهم الفضل في رفع رأس فرنسا عالياً. وهو ما بدأت أولى بوادره في الظهور في الاعلام، الذي احتشد وراء الحدث وتوحّد من خلال وصفه لاحتفالات الفوز بأنها المشاهد الأكثر إذهالاً وروعة، التي شهدتها فرنسا أخيراً، بموازاة الحديث عن التداعيات الايجابية التي يستجلبها هذا الفوز من نواحيه الاقتصادية والاجتماعية، مع الاعتراف بأحقية أنّه لولا الابطال المهاجرين لم تكن فرنسا لتحقق حلمها بعد 20 عاماً من حملها الكأس للمرة الأولى.


الحدث الرياضي كانت له آثار واضحة في السياسة، أضاءت عليها صحيفة "لوموند" من خلال اعتبارها أنّ "الديوك" جلبوا للرئيس الفرنسي ما كان يسعى اليه منذ أكثر من عام، فهذه اللحظة جعلت أنظار العالم كلها متوجهة نحو فرنسا. في حين اعتبرت صحيفة "لكسبرس" أن الفوز بالكأس هو انتصار لماكرون وفرنسا، التي تصدرت المشهد العالمي بشكل يظهرها القوية القادرة على تكريس قوتها لسنوات.

واليوم، بات على ماكرون أن يُترجم هذا الانتصار سياسياً، بعدما أظهرت استطلاعات الرأي أن شعبيته كانت قد تدهورت بشكل كبير وبات الفرنسيون يشعرون أنه بعيد منهم. فالرئيس الذي يطلق عليه البعض "رئيس الاغنياء" يمكن لكرة القدم ان تقربه قليلاً من الفرنسيين، وهو الأمر الذي سعى إليه ماكرون أساساً بغية التخفيف من الضغوط الهائلة التي تعرّض إليها من الداخل والخارج الفرنسي، إن كان لناحية ما يتعلق بملف الهجرة أو لجهة الاتهام الذي تعرض إليه، بأن فرنسا في زمنه أضحت الدولة المتغطرسة التي تخاطر بأن تصبح العدو الاول لدول الاتحاد الاوروبي بسبب موقفها من قضايا الهجرة والمهاجرين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها