الجمعة 2018/06/15

آخر تحديث: 15:52 (بيروت)

"الأوتوفيس العام".. رحلات فانتازية بين الواقع والافتراضي

الجمعة 2018/06/15
"الأوتوفيس العام".. رحلات فانتازية بين الواقع والافتراضي
increase حجم الخط decrease
من قلب موقع "فايسبوك" نفسه، جاءت الدعوة لترشيد استخدام موقع التواصل الاجتماعي الأشهر، الذي يتابعه قرابة مليارين حول العالم، وذلك تفادياً لمخاطره الاجتماعية والنفسية، وعلى رأسها العزلة والتغييب والاغتراب عن الواقع الملموس.

لم يأتِ مقترح التخفيف من فايسبوك جافّاً أو تنظيرياً أو وعظياً، على غرار إعلانات الإقلاع عن التدخين المكتوبة على علب السجائر، إنما اتخذ قالباً قصصياً فانتازياً من خلال مجموعة اسكتشات كوميدية مصحوبة بالرسوم الكاريكاتيرية، بثها في الفضاء الأزرق الكاتب والمدوّن والفنان التشكيلي خالد صلاح الدين.

التفاعل الإيجابي مع حكايات صلاح الدين (49 عاماً)، شجّعه على ضمها في كتاب مصوّر بعنوان "الأوتوفيس العام.. عالم افتراضي لواقع خيالي"، صدر حديثاً في القاهرة، متضمناً عشرات "المحطات" التي يتوقف فيها "الأوتوفيس"، وهو مركبة افتراضية عامة، تتسع لجميع الأعمار والطوائف، وفيها تدور الحواديت والأحاديث والتأملات والمواقف بأسلوب ساخر.

تساؤلات عديدة تنطلق من داخل وسائل النقل العجائبية، التي تحيل كل واحدة منها إلى وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي. فـ"الأوتوفيس" معادل لموقع فايسبوك، والميكروباص الصغير هو "الواتس أب"، والتوك توك هو "تويتر"، والركاب هم مرتادو السوشيال ميديا، المحمّلون بالحيرة، ولديهم أحياناً الإجابات الفطرية السليمة.

هل عالم التواصل الاجتماعي فرض أم اختيار؟ رفض أم قبول؟ وسيلة أم غاية؟ سلام أم عداء؟ 

خلف كواليس هذا "الأوتوفيس"، يتجلى أنه قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي كان الحوار المجتمعي يدور في اتجاه واحد، من خلال الإعلام التقليدي، في شكل متحدث ومتلقٍ، نخبة وعوام، لكن السوشيال ميديا غيّرت شكل الحوار تماماً.

أدى ظهور "الأوتوفيس"، وغيره من مركبات العصر، وفق خالد صلاح الدين وشخوصه الذين يشاركونه أفكاره في حواراتهم ومناقشاتهم، إلى تعزيز الشكل الديمقراطي للحوار أحياناً، فالكل صاروا متحدثين ومتلقين في الوقت نفسه، لكن في أحوال كثيرة يتحول هذا الحوار إلى فوضى وضجيج. 

على امتداد القصص والحكايات الشيقة، المبنية عادة على "قفشات" ومواقف كوميدية في "الأوتوفيس العام"، ينطلق مدفع الانتقادات لفايسبوك ومواقع التواصل الافتراضي، فهي التي جعلت الحياة الاجتماعية الواقعية خارج نطاق الخدمة، إذ أصبح البشر يكتفون بعلامات الاعجاب والتعليقات والإيموجي في الأفراح والتعازي، من دون مشاركات حية، وصارت بطاقات الأعياد إلكترونية بلا روح.

"فايسبوك"، الذي أسسه مارك زوكربرغ في فبراير 2004 كشبكة تفاعلية ذات مغزى اجتماعي، هو موقع التواصل الأشهر، وهو الذي تعرض بدوره للانتقادات الاجتماعية الأكبر في محطات "الأوتوفيس العام" الساخرة، فالركاب المسحورون المنجذبون إلى التشويق والمتعة يعانون الألم النفسي، والفقدان، وغياب المشاعر الحقيقية.

إنه الثمن الباهظ الذي تدفعه الإنسانية جرّاء الاستغناء عن العالم الواقعي، واستبداله كلياً بعالم آخر افتراضي يسوده الجمود الموحش بقسوته وردود أفعاله العنيفة غير المفهومة. فقط بضع كلمات أو سطور تُكتب، وتتحكم في قلوب وعقول بشرية بالكامل، سلباً وإيجاباً.

خاسرون بالتأكيد ركّاب "الأوتوفيس"، ممن تركوا أسرهم وأعمالهم، كي يتفرغوا لهذه الرحلات، والتنقل بين المحطات، بحب ونهم شديدين، مستمتعين بسماع صدى أصواتهم، ومتقوقعين داخل فقاعاتهم الهوائية الحديثة بأحلام آلية مؤجلة.

من خلال حكايات الأوتوفيس، ثمة مجال واسع لعرض ما يدور في أذهان الركاب، من نزاعات نفسية، وصراعات فكرية، تفضح تناقضات الذات، الموزَّعة والمتنازَعَة بين براءتها الأولى، وبين تقنيات العصر الباردة، ليتضح في نهاية الأمر أن "عالم التواصل الاجتماعي الافتراضي، استطاع أن يضحك علينا، ويسخر عقولنا له بالكامل".

أما "الاسكتشات" ذاتها، التي تنتظم فيها حكايات "الأوتوفيس"، فهي مواقف ومشاهد حياتية عابرة، مما قد يحدث يومياً في الواقع، مع إكسابها بعداً فانتازياً، لتلائم طبيعة المركبة الافتراضية الرمزية، وفكرة الكتاب، وقد وضع لها المؤلف عناوين مثل القصص القصيرة: علي البرنس سائق الأوتوفيس، ذات الرداء الأسود، الأصدقاء الثلاثة، البحث عن فضيحة، عريس يا بوي، الناس والصيف، وغيرها.



لا يُعنى الكاتب ببناء درامي محكم ومعطيات وعناصر سردية، بقدر ما يولي أفكاره المجردة اهتماماً، وفي سبيل ذلك تأتي البطولة عادة بالمفارقات الفكاهية التي تبرز تصورات الكاتب وشخصياته عن الواقع الحقيقي، والآخر الافتراضي، فالأول يعني الحياة، والثاني يعني اللا شيء.

بالإضافة إلى الغرض المحوري للكتاب، وهو تبيان مخاطر وسلبيات فايسبوك ومواقع التواصل، فإن القصص تتسع لمناقشة قضايا اجتماعية وسلوكية أخرى، مما يشهدها المجتمع على الأرض، وأيضاً في عالم فايسبوك.

من هذه الظواهر، على سبيل المثال، التدين الشكلي، كما في الحدوتة الأوتوفيسية "صفايح الزبدة السايحة"، التي تبرز تناقضاً فادحاً بين الأقوال والسلوكيات، لرجل ذي لحية، يرتدي ملابس الوعاظ، في حين ينخرط في معاكسة سيدات الأوتوفيس والتحرش بهن، وهذا النموذج منتشر في الفضاء الأزرق، إذ يعج صندوق رسائل فايسبوك بالمضايقات والتحرشات، في حال كانت المستخدمة أنثى.

"الأوتوفيس العام"، رحلات طريفة، شيّقة، في المنطقة الوسطى بين الحياة الحقيقية والواقع الافتراضي، يحاول قائدها الوصول بالركاب إلى ضفة آمنة، تسترد فيها الإنسانية وعيها بذاتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها