الخميس 2018/05/31

آخر تحديث: 15:09 (بيروت)

الجمارك و"الجديد": سُلطة تواجه سُلطة

الخميس 2018/05/31
الجمارك و"الجديد": سُلطة تواجه سُلطة
لقطات عرضتها "الجديد" تظهر مدير عام الجمارك يعبر الى داخل المطار بمحاذاة نقاط التفتيش
increase حجم الخط decrease
أسوأ ما في الاشتباك بين إدارة الجمارك وتلفزيون "الجديد"، أنه أثبت حقيقة مؤلمة، مفادها إن الصحافة الإستقصائية في لبنان، ليست قادرة على الوصول الى معلومة من غير دفع سياسي، وغطاء سياسي، ومعلومة من سياسي يَستخدِم بها الإعلام لمناكفة غريمه. 

خلافاً لذلك، وفي بلد لا يمنح حق الوصول الى المعلومات، يصبح الكشف عن أي معلومة محل إدانة، ويقود الإعلام الى ارتهان لجهة وفّرت له المادة التي غالباً ما يبذل الصحافيون فيها جهداً لإضافة التوابل ومستلزمات العرض الشيّق. 

بدأت حكاية النزاع بين تلفزيون "الجديد" وإدارة الجمارك، حين عرضت القناة تقريراً "إستقصائياً" يظهر مدير عام الجمارك بدري ضاهر يعبر الى داخل المطار من غير تفتيش. في الصور الحصرية للقناة، يسير ضاهر بمحاذاة نقاط التفتيش بالمطار من غير أن يخضع لما يخضع له بقية المواطنين. عرضت القناة التقرير، فتقدم ضاهر بدعوى قضائية أمام النيابة العامة الاستئنافية في بيروت "على خلفية التعرض له من خلال تقرير بث في نشرة الأخبار"، وأحيلت الشكوى الى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية لاجراء التحقيق.

وبما أن مصدر الصور رسم شكوكاً حول هوية مسرّبها، كونها تتعلق ببُعد أمني، جاء الرد بتسريب وثائق تدّعي أن كشف الصور في القناة، يعود الى ما يوحي بأنه انتقام من ضاهر الذي "رفض تجديد رخصة ادخال مؤقت ليخت يملكه (صاحب تلفزيون الجديد تحسين) خياط بدافع التهرب من الرسوم الاضافية والجمرك، بعد تجديد صلاحيته مرتين في السابق". 

النقاش هنا، إقتيد الى نقاش آخر، ثأري الطابع، ويساوي بين المخالفتين على قاعدة ارتباطهما بمآرب شخصية، وبأنها تستدرجان ابتزازاً لحلّ مرتجى، يكون "واحدة بواحدة"، علماً أن التسريبين يُظهران مخالفات شكلية. في الأولى، مدير عام لا يخضع لنقاط تفتيش، وهو أمر محل جدل في القانون لجهة إذا ما كان يسمح أم لا بمرور موظفي الفئة الأولى من غير تفتيش. وفي الثانية، مدير قناة تلفزيونية يسعى إلى إدخال يخت لفترة مؤقتة بلا جمركة. 

والواقع أن الطرفين يمتلكان سلطتهما. المدير العام يمتلك سلطة توقيعه على مستندات ربما تتضمن مخالفات قانونية، ولا يُعلم إن كان يمررها لآخرين غير الخياط.. والقناة تمتلك سلطة إعلامية تستطيع الرد بها على موظف فئة أولى، لم يكن بوسعه إلا اللجوء للقضاء اللبناني لرد اعتباره. وبمعزل عما إذا كان ما قام به قانونياً أم لا، فإن سلطة التلفزيون وضعت المخالفة المفترضة أمام الرأي العام وعقدت محاكمة علنية، وسيثبت القضاء ما إذا كان الموظف بريئاً من المخالفة أم مداناً بارتكابها. 

والنقاش هنا، لا ينحصر في قضية باتت في عهدة القضاء. هو نقاش جدّي حول قدرة الاعلام على الوصول الى المعلومات، من غير سند سياسي. أظهرت الواقعة أن القناة يستحيل عليها الحصول على الصور من غير تسريب من جهة أمنية، كون المراسلين لم يترصدوا مدير عام الجمارك لمعرفة ما إذا كان سيمر عبر نقاط التفتيش أو بمحاذاتها أو عبر صالون الشرف. نُقلت الصور عن كاميرات المراقبة في صالة المطار. وبالتالي، فإن بثها ناتج عن تسريب أمني له أغراضه السياسية أيضاً. 

وفي المقابل، يستحيل أن يحصل موقع إلكتروني على وثائق ترسم شبهات بالمخالفة على تحسين الخياط من غير تسريب من جهة ما، قد تكون إدارة الجمارك نفسها أو إدارة معنية بها أيضاً. فالمراسل لم يترصد بريد الرسائل الى الإدارة، وهو -حُكماً- لا يمكنه الوصول إلى أرشيفها لكشف "الأسباب" التي تحدث عنها. وحين يطرح الموقع الالكتروني فرضية "الأسباب"، فإنه يعرّض القضية لبازار المقايضة التي كانت ستقوم لولا الإحجام عن توقيع المستندات!

ترسم الواقعة الكثير من علامات الاستفهام حول ما يجري من "صفقات" و"مقايضات" لا يطلع عليها الرأي العام إلا حين تتضارب المصالح بين المعنيين والنافذين واصحاب السلطة، سواء كانوا من الشخصيات السياسية أو الإعلامية المؤثرة. وتمثل جزءاً من نمط فساد قائم في البلد لم تلحظه وزارة الدولة لشؤون الفساد، أو لم تصل إليه بالنظر الى العجز العام عن الوصول للمعلومات. 

يثبت ذلك أن الاستقصاء الإعلامي عن الملفات، والذي يتحول إخباراً للنيابة العامة، ليس ممكناً إلا في أحوال الدفع السياسي والكشف عنه لأغراض المناكفة السياسية. فالإستقصاء هو وَهم، والأصح تسميته "استخداماً للإعلام لتصفية حسابات السياسيين في ما بينهم". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها