الأحد 2018/05/20

آخر تحديث: 18:46 (بيروت)

"عودة ماسبيرو".. أوهام الريادة الاعلامية المصرية

الأحد 2018/05/20
"عودة ماسبيرو".. أوهام الريادة الاعلامية المصرية
ظهور هوائيات البث الارضي من جديد
increase حجم الخط decrease
المعنى المجازي الذي يقصده مسؤولو الإعلام الرسمي في مصر بشعار "عودة ماسبيرو" يحيل إلى استعادة الريادة في حقل الميديا، لكن الشواهد الفعلية تشير إلى تحرك في اتجاه معاكس لعقارب الساعة، وتراجع عن مواكبة العصر، وإفلاس في منظومة الابتكار.

شهد الإعلام المصري تفوقًا في عقود سابقة، بالتوازي مع نهوض قوة مصر الناعمة، وامتداد تأثيرها خارج الحدود، وأمر طيب أن يسعى اتحاد الإذاعة والتليفزيون إلى محاولة النهوض، بعدما بلغت ديون ماسبيرو في 2018 قرابة 1.8 مليار دولار.

وبعيدًا عن خطط الدولة لإصلاح وتطوير أكثر من عشرين قناة تلفزيونية وسبعين قناة إذاعية متكلسة، وتوصيات لجنة الثقافة والإعلام بالبرلمان التي تنتهي عادة بدعم مالي حكومي لتلبية احتياجات العاملين بدون معالجة الأزمة، فإن تجسدات "عودة ماسبيرو" تبقى مثيرة للانتباه.

وبدلًا من الأخذ بأسباب التفوق ومقوماته البشرية والتقنية؛ التي مكّنت الإعلام المصري ذات يوم من تأكيد حضوره محليًّا وعربيًّا، فإن حلًّا آخر بالغ الغرابة والطرافة يجد فيه المسؤولون عصا سحرية لاستعادة ما كان.

هذا الحل ببساطة يتمثل في حذف تلك السنوات البائسة التي تطورت فيها الميديا عربيًّا وعالميًّا على نحو مذهل من دون أن ينتبه الإعلام المصري. فإذا تم استخدام آلة الزمن، وعادت الإنسانية إلى الوراء، وظهر "طلعت حرب" من جديد في أروقة "بنك مصر"، فلماذا لا يعود الإعلام المصري إلى سابق عهده؟!

تلك هي "عودة ماسبيرو"، التي يراهن عليها أصحاب هذه الرؤية العجائبية، وهناك العديد من القرائن التي تدل على هذا التوجه السلبي نحو "الإقامة الكاملة" في مدينة الماضي الفاضلة، هرباً من معركة الحاضر الخاسرة.

لا يعمل اتحاد الإذاعة والتلفزيون وفق أبجديات التخطيط وآليات المنافسة، في عصر الاقتصاد الحر والسماوات المفتوحة، إنما يملك فقط الاجترار والاستنساخ والعودة إلى الوراء، وفي سبيل ذلك قد يراهن على "النوستالجيا" كوسيلة من وسائل جذب المشاهدين. 

من التجليات الأولى لتوجه الميديا المصرية الماضوي، إطلاق اتحاد الإذاعة والتلفزيون فضائية "ماسبيرو زمان" على النايل سات في 2016، بهدف الإفادة من تراث ماسبيرو، وإعادة عرض المواد القديمة من برامج ودراما وحفلات وغيرها، تماماً كما هي، وفق الأشرطة المحفوظة من دون أي معالجة.

ارتباط المشاهدين من كبار السن بأعمال تراثية أو ملتصقة بوجدانهم وذاكرتهم، هو المبرر الوحيد لمتابعتهم بعض المواد التي تعرضها القناة، بالنظر الى انهم لا يجدون أعمالًا تضاهيها جودة في المنتج الحديث.

وتعاني "ماسبيرو زمان" مشكلات جوهرية، تتعلق ببيع أرشيف التلفزيون للقنوات الخاصة، وسوء حالة الأشرطة من حيث نقاء الصوت ووضوح الصورة، وافتقادها خريطة برامج دقيقة معلنة، وعدم اعتنائها بحسن الانتقاء؛ إذ تعرض أية مادة قديمة بوصفها متميزة، فضلًا عن عرضها بعض الأعمال (كالمسلسلات) من دون استكمالها، بسبب فقدان الأشرطة أو تلفها.

في مسلكه إلى الماضي أيضاً، أعاد اتحاد الإذاعة والتلفزيون إطلاق قناة مصر الأولى الفضائية بتقنية (إتش دي) في فبراير / شباط الماضي، لتتضمن خريطة برامجها عدداً كبيراً من البرامج القديمة، التي يعاد إنتاجها حالياً على النحو السابق نفسه، من دون تطوير حقيقي.

من هذه البرامج "مصر النهارده"، وهو "توك شو" كان قد حل محل "البيت بيتك" في أعقاب ثورة يناير 2011، وتوقف في منتصف ذلك العام، لعدم اتساقه مع المد الثوري السائد وقتها، ولاعتراض العاملين في ماسبيرو على المذيعين الذين يقدمونه وهم من غير المنتمين للتلفزيون.

تحت شعار "ماسبيرو يبحث عن الأمجاد"، انطلق "مصر النهارده" في يناير 2018، بتقديم خيري رمضان ورشا نبيل ورعاية وكيل إعلاني وفّر له دعاية كبيرة وملصقات بالشوارع. ويستنسخ البرنامج روح ماضيه انطلاقًا من المثل الشعبي "من فات قديمه تاه"، ويدور في فلك حكومي سلطوي مفتقدًا الجاذبية.
وفي الإطار نفسه، تقدم "قناة مصر الأولى" برامج مكررة، من قبيل "كورة كل يوم" لكريم حسن شحاتة، و"الست هانم" لمها أحمد، و"طريق الحياة" لتامر مطر، و"الطباخ" للشيف أحمد المغازي، و"صباح الخير يا مصر"، وغيرها.  

وتحت شعار "عودة ماسبيرو" أيضاً، بحث الإعلام الرسمي في مصر عن حيلة للترويج للفضائية المصرية وقناة مصر الأولى، تمثل في ملمح ماضويّ بامتياز، حيث تم استغلال اسم النجم محمد صلاح وصورته وهو يحرز هدف التأهل لمونديال روسيا، مع تعليق يقول: "زي ما قدرنا نرجع كأس العالم تاني بعد 28 سنة، الإعلام المصري راجع!".

أما أطرف شواهد عودة الميديا المصرية إلى الماضي، فتتجسد في "الهوائيات" التي صارت تعتلي أسطح المنازل مرة أخرى بعد انقراضها، وذلك لأن هناك بعض المواد لا يبثها التلفزيون المصري الرسمي إلا عبر قنواته الأرضية فقط، ولا يمتلك حقوق بثها فضائيًّا.

وفي حين تعلن قنوات عربية خاصة عن بث مباريات النادي الأهلي المصري في دوري أبطال إفريقيا على سبيل المثال، فإن قنوات "ماسبيرو" تعلن عن بثها أرضيًّا، بما يعني ضرورة توفر هوائي تقليدي (إيريال)، والاستغناء عن الريسيفر وطبق الاستقبال، في مشهد استعادي يحيل إلى الماضي على نحو كامل!

"عودة ماسبيرو"، دعوة فجة إلى استعادة مجد إعلامي غابر، لا تكفي النوايا الحسنة لتحويلها إلى حقيقة، خصوصًا أنه تم اختزالها إلى مفهوم آخر تماماً، هو نفي الحاضر، والهروب إلى الماضي، وهذا ما لا يمكن أن يحدث.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها