السبت 2018/05/12

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

كلنا عباس جعفر!

السبت 2018/05/12
كلنا عباس جعفر!
جلبة "حزب الله" الموتسيكلية: الجميع يعيش في الإعلام
increase حجم الخط decrease
طرحت صفحة "ميديا-المدن" استفهاماً حول غياب الإعلام عن تغطية جلَبة حزب الله الـ"موتسيكلية" في بعض شوارع بيروت. وقد نقلت الصفحة عن القيمين على ذلك الإعلام، بأن مرد غيابه يعود، على الأرجح، إلى أمرين، الأول "عدم حمل الموضوع على محمل الجد"، والثاني "التخفيف من حدة التوتر وعدم تأجيج الخلاف". 
من المتاح الإعتقاد بهذين الأمرين، ثم الإستنتاج بأن الإعلام، ولما غاب، كان فعلياً يرتكز عليهما. إلا أن هذا المتاح لن يكون سوى مقلب من مقالب التستر والإنكار. إذ أن الإعلام إياه لا يتوقف عن أخذه مواضيع سخيفة، وسخيفة جداً، على محمل الجد، كما أنه لا يتوانى عن الإنخراط في العراك السياسي، وجعله يقيم في أقصى القاع، حيث لا يبقى منه سوى الشتيمة والضرب. 

بالتالي، الإعلام، وعندما يبرر غيابه بأمر الحفاظ على الجد وأمر الحرص السلم، يطلب من مشاهديه ألا يدركوا حاله ومآله. وبالتالي، يطلب منهم، وببساطة، أن يتقاسموا معه كذبته، التي قد تكون النية وراءها طيبة، لكنها تبقى كذبة فاقدة لشرط تصديقها الأساس، أي أن يكون نسيان الإعلام أمضى من تذكره، وهذا ليس متوفراً: لا أحد بمقدوره أن ينساه أو يتذكره، لأن الجميع يعيش قبل هذا النسيان وهذا التذكر، يعني أن الجميع يعيش في الإعلام.

حسناً، لكن، وبحسب استفهام "ميديا-المدن" مرة أخرى، لماذا غاب الإعلام؟ 
لا بد من تكرار عبارة "الجميع يعيش في الإعلام"، وإضافة عبارة "لا سيما سائقو الجلبة الموتسيكلية، ومعهم، مدينة بيروت أيضاً". من هنا، وعندما غاب الإعلام، كان يشيح نظره عن شيء منه، عن شيء يحيا فيه. أو لنقل، وبطريقة مباشرة، عن شيء صنعه، وينم عنه. وقد أسرع إلى هذه الإشاحة لأن إنتاجه لذلك الشيء ليس منصرماً، أي أنه ليس عملاً قديماً، بل مزاولة قريبة، لا يتعدى عمرها عقداً من الزمن، أو ربما، سنوات قليلة، مثلما أنها مزاولة مستمرة. 

حين غاب الإعلام، حاول الإيحاء بأن صلته بما يجري معدومة، بأن لا علم له بما يجري. في تلك اللحظة، قال الإعلام: "لا شيء يجري"، وذلك، لكي يقول "لا علاقة لي". غير أن ما جرى كان يجري، كما أن الإعلام مسؤول عنه، ليس بسبب دوره في إضرام التنازع في المشهد السياسي، وابتعاده عن الحياد، واقلاعه عن الموضوعية، إلخ. لا، ليس هذا هو السبب، الذي يُدرّس كليات الإعلام، بل لسبب آخر.

بالتوازي مع ذيوع صحيفة، تدعى "الأخبار"، وتوجهها إلى جمهور حزب الله، الذي تتأرجح في تصويره بين كونه جيشاً من الفقراء بمعنى "المشحرين"، أو جيشاً من الشهداء، فتتأرجح بين الشفقة عليه واحتقاره، قرر الوسيط الأعلى لهذه الصحيفة، الوسيط الذي تطمح أن تكونه، أي التلفزيون، بالتوجه إلى ذلك الجمهور. ولما يتوجه التلفزيون إلى فئة محددة، يعني عندما يريد القبض عليها، غالباً ما يتقدم إليها كمسعف لهامشها، أو للغريب فيها. وطبعاً، الإسعاف، هنا، لا يعني سوى العرض. فلا يمكن للتلفزيون سوى أن يحول المُسعَف إلى معروض على شاشته، لا ليشاهده وحده، بل لكي يبديه لكل المتفرجين.

ولهذا، ولكي يعرضه، لا بد من إيجاد موقع له أمامهم. ففي وقت، كانت قناة "المنار" تظّهر أهل الضاحية بالمجمل مجرد خاضعين لحزبها. المشكلة هي استضعافهم، ولا حل لهذه المشكلة سوى باستشهادهم. كانت القنوات الأخرى تختار منهم فئة معينة لتسعفها/تعرضها بعد أن تجد لها موقعاً في برمجتها، وما هذا الموقع سوى موقع المرفِّه، أكان الأبله، أو المنكِّت، أو الريفي المتخلف، صاحب اللكنتين البعلبكية والجنوبية، أو المندمج بكل طيش وحماقة في مجتمع المدينة. 

فقد صار شباب الضاحية - وهذه هي فئة الغرباء المستهدفة في الفئة التي تريد الشاشة الصغيرة القبض عليها - هم وقود التلفزيون. بحيث أنهم، وفي شخصية عباس جعفر مثلاً، تحولوا إلى مرفِّهيه الجدد، أي صاروا صنّاع جذبه للمتفرجين. والأخيرون، كالعادة، حين يتلقون أي موضوع جديد، يستغربون قليلاً قبل أن يصفقوا له.  

على هذا النحو، غدا المُرَفِه هو الصورة الجديدة، التي يتوزع عليها أهل الضاحية، بعد صورة الفقير، وصورة الشهيد. وعلى هذا النحو، استقر التقسيم لإنتاجهم المشهدي. فالصحيفة التلفزيونية، "الأخبار"، وبالإستناد إلى هرائها اليساري ومدونته الغثة، تعهدت صورتهم كفقراء، و"المنار" تعهدت صورتهم كشهداء، أما القنوات الأخرى، فقد تعهدت صورتهم كمرفِّهين من خلال برامجها الكوميدية.

طبعاً، محور هذا التعهد الثلاثي هو سلطة الحزب، التي ما كانت لتسمح به لولا حاجتها إليه، ولولا نجاحها في تحويل المحطات الأخرى، يعني غير قناتها، إلى مجرد فواصل ترفيهية لـ"المنار" إياها: أهل الضاحية يشاهدون "تلفزيونر الجديد" مثلاً بالإنطلاق من "المنار"، وليس كمحطة قائمة بذاتها.

ولكي تبقى كذلك، عليها أن ترفه عنهم، "تفش خلقهم" بمقدمة النشرة الإخبارية، ثم، تضحكهم بشخصية عباس جعفر - يوم كان لا يزال من إنتاجها. وبين الإثنين، تعرض لهم تقريراً عن "شخصية اليوم"، أي الحاج وفيق صفا. فالأخير هو القوَّام على التعهد هذا، "الرابط والمنسق". ليس الأمني، بين الحزب والدولة فحسب. بل الميديوي، بين الحزب والتلفزيون، أيضاً. ولهذا، يعبر اجتماعه من مدراء القنوات إلى المطربين المشاهير.

وجاء وقت انهيار التلفزيون، وراحت قنواته تبحث عن سياسات للبقاء أمام مدّ الوسائل الإعلامية الأخرى. تنبهت هذه القنوات، أو إثنان منها على وجه الدقة هما "أل.بي.سي" و"أم.تي.في"، إلى أن طريقهما للصمود، ليس اعتماد "خطاب إجتماعي واسع"، أو "تقصير الجوية، وتطويل الاجتماعية"، على قول الطرفة، وهذه حالة "المؤسسة اللبنانية للإرسال". فهذا الأمر، جربته "الجديد"، وليس أداة جذب إلا إذا ركّبته على متن خطابي واسع، يجمع بين الإستجداء الشعبوي والضغينة الطائفية. 

كما أن طريق الصمود ليس إعتماد التوجه إلى جمهور محدد، واقتصار التلفزة على صناعة رأيه. فهذا يستلزم مخاطبته كلياً، والتكلم بلسانه، وهذا ما لم تحبذه "أم.تي.في" التي، ولما وجدت أنها، ولكي تحذو حذو الـ "أو.تي.في"، عليها أن تتنازل عن عصريتها، تجنبتها. لا سيما أن تلك العصرية هي توقيعها الأول والأخير في عالم الشاشة الصغيرة. 

طريق الصمود ليس سوى التمسك بوقود التلفزيون المستحدث، أي المرفِّهين الجدد - عباس  جعفر، ودائماً، ليس كشخص بالطبع، بل كشخصية تصورية عن شباب الضاحية - وتعزيز دوره، بحيث لا يعود مجرد مثير للضحك، بل ها هو ينقلب إلى مستهزء. وهنا، تقاطعه مع التعبير الفايسبوكي- أي أنه يوجه تهكمه إلى كل شيء على أساس أنه بهذا يتخطاه. 

لقد آن الأوان ليتحول جعفر إلى شخصية مجردة، فتحل في إثنين، هشام حداد وعادل كرم، ليصبحا "مَلكَي" الشاشة الصغيرة، اللذين يصِلان التلفزيون بشبيبة "فايسبوك"، يدفعانهم إلى عدم فقدان الإيمان به. فها هو يستقبلهم، وها هو يقف إلى جانبهم في "التمرد" على كل شيء: كلنا عباس جعفر، لكننا هذه المرة، نضحك قبل أن يضحك علينا أحد!

وفعلياً، صارت القاعدة أن دخول الشباب إلى التلفزيون، يجب أن تمر عبر شخصية المستهزئ أو المهضوم، أو المثير للضحك بشكل عام، مثل هشام حداد وعادل كرم. لكن، كالكامن فيهما، أي كجعفر إياه. الأخير، وحين يستضيفه برنامج "لهون وبس"، يبدو، وغير أنه أكثر قوة كوميدية من الجالس مقابله، كأنه يجلس مقابل لاحق به، مُكتشفٍ لمساره. لكنه لا يقدر على التصريح بذلك. 

وفي هذا السياق، لا بد من ملاحظة، وهي أن ذيوع هشام حداد بين الشباب، أكانوا من الضاحية الجنوبية أو من أي مكان آخر، يستند إلى وصف له، يدور بينهم، وهي أنه "صاير شيعي" (من علامات سيطرة حزب الله أيضاً، تحويل الشيعي من شخصية المنشق إلى شخصية المسلي)، على ما قالت إحدى الصحافيات عنه ذات مرة، وهو يؤدي هذا الوصف، الذي لا يرتكز سوى على صورة المُرَفِّه، التي صنعها التلفزيون سابقاً، والتي عاد وقوّاها بالإستهزاء.

مع حداد، ظهر المرفِّه بهيئة الضاحك على الذين رفّه عنهم، وبهذا الفعل بالذات، يضحكهم عليه، وفي ظنه، أنه يفوز.

امتلأ التلفزيون بجلبة ضخمة، تشتمل على القهقهة، والسخرية، وعلى كل أشكال الترفيه الإنبساطي، الذي يزعم أنه تفلت من أي شيء في وقت أنه إعادة الإنتاج أو الترسيخ لوطأة كل شيء. وعلى هذا المنوال، غدا الشباب في التلفزيون. ولكي يكونوا نجوماً، عليهم أن يكونوا مستهزئين. وبالتالي، ولد السباق بينهم على الاستهزاء، وعلى النقض، بالإستناد إلى الإقتناع بأن موضوع الهزء والتقويض ليس منهاراً بل متماسكاً، وهذا ليس صحيحاً البتة، بل ذلك الإقتناع هو الذي يجعله كذلك. 

في هذه الجهة، ظهرت الجلبة الموتسيكلية لحزب الله في بعض شوارع وطرق بيروت من التلفزيون، الذي، ولما يغيب بعدساته عنها، فلأنها تدور فيه. فلا يمكن للتلفزيون أن يصور داخله، وحتى لو ادعى ذلك باستدخال الكواليس في برنامج من هنا أو هناك. كانت الجلبة تلفزيونية، وهي، ولما تمضي في بيروت، تمضي في مدينةٍ، وسيطها الأعلى، الذي أرجعته سياسة الهضامة، هو الشاشة الصغيرة. 

ليس صدفة أن مقاطع الفيديو، التي جرى تداولها في أثناء الجلبة، ترافقت مع الضحك على "هضامتها"، كأنها خرجت من الاستديو لتذهب إلى الاستديو، وتمر بالاستديو أيضاً. مع العلم أن التعدي على الأخير، أي على المدينة، ليس، وكما تردد دعاية اليسار، بمثابة اعتراض على ما يسمى "نيوليبراليتها"، بل إنه تطرف في هذه "النيوليبرالية"، بغية مفاقمتها، وهذا، في الواقع، بيان لرغبة حزب الله.

مارست الموتسيكلات "هضامتها" في شوارع بيروت، استعرضتها لكي تذهب أكثر في التلفزيون، وكأنها تؤدي المطلوب منها. ولما يغيب هذا التلفزيون عنها، فلأنه لا يراها، ولأنها في أقصاه. في الواقع، غاب الإعلام عن الجلبة، لأنها تنقله مباشرةً، فلا داعي أن ينقل من تنقله. 

تكرار للعبارة: الجميع يعيش في الإعلام، لا سيما سائقو الموتسكيلات، الذين، وعندما كانوا ينفذون أمر سلطتهم الحزبية، كانوا ينفذون أمر التلفزيون أيضاً. الحزب قال أنهم "عفويون"، والتلفزيون لم يبثهم لكي لا يكشف عن عقب إنتاجه لصورتهم كمُرَفِّهين. لكنهم، نقلوا الحزب، مثلما بثوا التلفزيون، و"ها هي هي بيروت ظلت تلفزيونية"، هذا هو الهتاف قبل أي هتاف آخر!
لماذا غاب الإعلام؟ لأنه حضر كثيراً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها