الثلاثاء 2018/03/20

آخر تحديث: 19:03 (بيروت)

أنقذوا فيروز من تلك "الحِندَقَّة"!

الثلاثاء 2018/03/20
أنقذوا فيروز من تلك "الحِندَقَّة"!
increase حجم الخط decrease
على بُعد تنهيدة من الزمن، من قرار إدارة الرئيس الأميركي الشعبوي دونالد ترامب، إلغاء حياد الانترنت لمصلحة الأموال، تشهد فيروز وإرث أغانيها ومحمولها من موسيقى الرحابنة، هجمة مماثلة. 

المجد للمال، المجد للمال. لا حياد للانترنت، بل الأولوية لمن يدفع فيَصِل أولاً إلى أجهزة الكومبيوت والخليوي و"تابلت". لا وزن في عقلية المال للناس (في لبنان والمشرق العربي، بل على امتداد الجمهور العربي في كل جغرافيا) الذين رسخوا فيروز "سفيرة إلى النجوم"، وجعلوها أيقونة كل صباح، دعاء الأم وفنجان القهوة ورائحة الخبز وكل ما يستحق أن تعاش من أجله الحياة على هذه الأرض.

"ع الروزانا" و"هلا لا لايا" و..."الحلوة دي قامت تعجن" من تراث سيد درويش ومِصر، إلى بقاء حقيقي كجزء من كينونة الناس وتراثها وذائقتها وثقافتها. عندما تألق غناء "الزمن الجميل" في القاهرة، كان صوت فيروز وطناً فنياً للبنان، كي يكون نداً للقاهرة العملاقة آنذاك، فتمسي مدرسة الرحابنة وزناً موازياً لمدرسة عبد الوهاب. هناك من يتجرأ الآن على تقزيم الصوت- الوطن، إلى سلعة تقاس وتُشترى بالمال. بقول آخر: هناك من يحاول محو فيروز الصوت الممتد على قامة وطن، لتصبح مجرد "تراك" و"سي دي" لا وزن له سوى المال.

كيف يبقى الفن؟ الارجح أن عقول الساعين إلى المال على بطونهم كالحيّات، ومحاولاتهم منع صفحات جمهور فيروز في السوشال ميديا من تحميل أغانيها، لم تنشغل في التفكير بإجابة فعلية عن ذلك السؤال.

كيف بقيت فيروز إلى الآن، أليس بأنها جزء من كينونة ثقافية للناس؟ هل احتاجت فيروز قوانين الملكية الفكرية كي تبقى على مدار عقود تصدح فيها في رؤوس الناس وقلوبهم، ليلاً ونهاراً، وعلى مدار الساعة؟ من غير الناس صان فيروز؟

إذا أردتم الانترنت، تقول عقلية المال والشعبوية عند ترامب، فلا حساب للمعرفة والتواصل والديموقراطية والتبادل بين شعوب الأرض؛ أحسبوا المال وحده، له المجد وحده... (ثمة من يكمل لترامب في لبنان) له الموسيقى وحده، له هوية الوطن التي رأتها أجيال بعد أجيال مرسومة على صوت جبلي رومانسي، بل حفظت به تراثها الموسيقى المتجدد بجهود الأخوين رحابني اللذين غيبهما الموت. إن أردتم أن تسمعوا فيروز، عليكم أن تدفعوا: تلك هي الرسالة باختصار، والباقي زبد أمواج لا ينفع الناس ولا يبقى في التراب.

إمّحاء رقمي يساوي قتل وطن
قبل فترة، خرج من قال أن فيروز لم تكن سوى مؤدية أغانٍ، وأن ليس من حقها أن تطلب فلساً طالما أنها تقاضت ثمن غنائها في المسرحيات والحفلات. لم تكن حجته أنه وريث، وكما لو أن الأمر يتعلق بحساب في البنك، ألغى بتلك الإدعاءات كل حقائق العلاقة بين موسيقى الرحابنة وصوت فيروز. 
وحاضراً، يشهد "يوتيوب" هجمة مماثلة، والحقيقة أنها تضرب فيروز أولاً، وتبدو خارج الزمن أيضاً. في زمن الإنترنت، تُشكل الموسيقى والأشرطة المتداولة بالملفات الرقمية (عبر "يوتيوب" وحسابات الناس في "فايسبوك" و"تويتر")، طريقة الاستماع في زمن الانترنت وشبكات الجيل الخامس للخليوي. في زمن سابق، كان الاستماع للموسيقى عبر الراديو: تفتح الجهاز، فتنسكب منه الموسيقى. لا تتحول الموسيقى المتبددة في الهواء، إلى تراث، إلا إذا أمسك بها البشر وكرسوها جزءاً باقياً من هويتهم وثقافتهم وغنائهم وتاريخهم. هناك من يحاول إخراج فيروز من ذلك كله.

هناك من يحاول "قتل" فيروز في الانترنت عبر محوٍ رقمي متغوِّل. هناك مَن يحاول محوها من البث التدفقي، يحاول إخراجها من مقاطع الـ"ميكس/ريمكس" التي تقف أغاني فيروز في مقدمة خيارات الناس فيها. لنفكر قليلاً في الصورة التالية: ما الذي يحدث فعلياً غير إزالة فيروز وفنها من الانترنت، عبر ملاحقة ذلك الفن في السوشال ميديا، وإزالته بدأب؟ إذا تحقق للساعين إلى احتكار فيروز ما يريدون، ماذا تكون النتيجة سوى اختفاء فيروز وفنها، عن كل مكونات الحياة اليومية الرقمية للناس؟ إذا صنعوا بطاقات معايدة، لن يضعوا "ثلج... ثلج". إذا هنأوا بعضهم بالميلاد والفصح، لن يضعوا تراتيلها الكنسيَّة و"الأم الحزينة" على ما يتبادلونه. إذا التقطوا من عناء الدنيا لحظة دافئة مع أطفالهم، لن يضعوا "تك تك يا أم سليمان"، ولا "ريما الحندقة" التي غنتها فيروز لابنتها ريما في فيلم "بنت حارس". نعم. هناك من يحاول قتل فيروز في الانترنت. إذا اكتملت عميلة "الاغتيال"، هل ينفع المال؟

في أميركا، من قلب البلاد الأكثر تشدداً في حقوق الملكية الفكرية، ظهرت حركة "المشاع العام" التي ساهم البروفسور لورانس ليسغ في إطلاقها. وربما يفيد مَن يحاولون الاختباء وراء كلمات مثل "إرث فيروز"، أن يقرأوا مثلاً كتاب ليسغ "ثقافة حرة: مستقبل الإبداع ومستقبله" الذي فنَّد فيه مزاعم كثيرة عن الملكية الفكرية. والأهم أنه ركّز على حق الناس في المعرفة والفن، وأن وصولهم إلى المعرفة والموسيقى والاغاني هو جزء من التقدم في تلك الأمور.

مثلاً، على مدار سنوات تفوق عمر من يقودون حملة امّحاء فيروز عن السوشال ميديا، دأب فنانون عرب في أوطانهم وخارجها، على الاستناد إلى صوت فيروز وأغانيها وموسيقى الرحابنة، كي يصنعوا فناً جديداً، فيخلد الفيروزي فيه عبر الاستمرارية، بل يعود الى التجدد. 

ولعله من المفيد أيضاً ألا تكون المقارنة مع أميركا، جزافاً. وفي كتاب "ثقافة الانترنت"، يذكّر ليسغ بأن الولايات المتحدة بقيت قرناً من الزمان من دون قوانين ملكية فكرية، بل إنه جعل عنوان ذلك الفصل "أمّة من القراصنة"! وعندما تشددت جمعيات الموسيقى والأغاني في أميركا، ظهرت حركة "المصدر المفتوح" و"المشاع العام" ("كرييتف كومنز" Creative Commons)، لحماية حق الناس في حماية الفن من سطوة المال. وكذلك وضع ليسغ كتاباً عن علاقة الموسيقى في زمن الانترنت مع التغول في استعمال قوانين الملكية الفكرية.

وأشار إلى أن مشاركة الموسيقى (خصوصاً عبر "ريمكس") في الإنترنت، تكاد تشبه التنفس، وتداول الموسيقى بمعنى الوصول إليها كثقافة ثم إعادة انتاجها، هي جزء من ثقافة الناس والمجتمع في الزمن الرقمي. ودعا ليسغ إلى رسم حدود للأشياء، بمعنى عدم التغول في استعمال حقوق الملكية الفكرية من جهة، والحفاظ على حقوق الابداع والمبدعين من جهة ثانية. 

لكن، من يقول أن علاقة فيروز مع لبنان هي بسهولة علاقة مغنٍ مع سوق؟ "لما بغني إسمك، بحس صوتي غِلي/ إيدي صارت غيمة وجبيني عِلِي". في أغنية "يا جنوب"، رسم الغناء الفيروزي موضعه في قلب الوطن وحريته وهويته. لا داعي للحديث عما يعنيه إمحاء فيروز بالنسبة إلى من يرزحون تحت الاحتلال وتكون أغانيها عن القدس وشوارعها ومزهرية الناس، جزءاً من توقهم للخلاص من الاحتلال، وتشوقاً لمستقبل الحرية المنسوجة على صوت فيروزي. عن أي ملكية نتحدث؟ ليس فقط أن فيروز مِلْكٌ حقيقي للناس، بالأحرى أن الناس وذاكرتها وثقافتها وأعراسها وأفراحها ومراهقتها وصباحاتها ومساءاتها وأوطانها و... و... و... هي المِلْك الفيروزي الحقيقي، هي المساحة الحقيقية والافتراضية التي تحمي إرث الغناء الرحباني وصوت فيروز. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها