السبت 2018/12/08

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

الاعتداء على فرنسا

السبت 2018/12/08
الاعتداء على فرنسا
increase حجم الخط decrease
أياً كان السبب، لا يمكن تبرير ما فعله البوليس الفرنسي بحق التلاميذ في مدينة مانت-لا-جوا. إذ إن هذا الفيديو، الذي يظهر عناصره فيه، وقد احاطوا هؤلاء بعد اجبارهم على الركوع ووضع الأيدي فوق رؤوسهم، معاقبين اياهم على المشاركة في الاحتجاجات التي شهدتها ثانوياتهم، يعبر عن واقع بعينه، تعيشه البلاد.

ومفاد هذا الواقع، أن بغية العهد الماكروني هي الانتهاء من حالة الاعتراض العامة على سياسته، ولو استدعى الأمر أن يدفع شرطته إلى قمع المتظاهرين بطريقة تقترب من الطريقة التي تعتمدها الأنظمة الاستبدادية، كنظام البعث الأسدي مثلاً. مع فارق الاكتفاء هذه المرة بإسكاتهم عبر تجميدهم وليس ضربهم، ولاحقاً قتلهم.

وفي هذا السياق، سياق اقتراب الطريقتين، أو سياق انطواء القمع الديموقراطي على ثانيه الديكتاتوري، وانكشاف هذا في لحظات الذروة، خفف حاكم المحلة الإداري من أثر الفيديو معتبراً أن قوات الشرطة، وعلى الرغم من فعلتها "الصامدة" بحق التلاميذ، إلا أنها لم تؤذهم البتة، فلم تضربهم أو تلكمهم أو تسيء التصرف معهم. ما يعني أنها لم تغلط، فما أرادته هو الحفاظ على الأمن بعد جلبة طويلة. طبعاً، هذا الكلام المعتاد، الذي يسوغ أي عنف بكونه ليس هو العنف، العنف الكبير، الذي يخلف علامات لا يمكن التستر عليها، يتقاطع مع التعليق المسموع من الفيديو، قائلاً: "ها هنا صف عاقل"، اي ان تلاميذه لا يصدرون ضجة، كما لو أنهم في قاعة التدريس، وحولهم المدرس الذي يلوح بالمسطرة الخشبية لكي يستلذ بضبطهم. انه تطابق المدرسة مع السجن، الأستاذ مع الشرطة، التلاميذ مع المعتقلين، والدراسة مع كم الأفواه... لا، فرنسا العظيمة أسست لنقد هذا التطابق ولنقضه، بالتالي، فرنسا البوليسية هذه تعتدي على فرنسا تلك، ولا يجب أن تستكمل هذا الاعتداء!

لكن، الهرب إلى الأمام، الذي يعتمده العهد الماكروني يبدو أحياناً أنه ينمّ عن هذر. وزير الداخلية، كريستوف كاستانير، قال إن الظاهرين في الفيديو ليسوا بالضرورة طلاباً ومراهقين، وفي النتيجة، المستنتج من نفيه هذا، أن قمعهم لا يستلزم كل هذه الضوضاء. إذ أنهم ثلة من الجانحين ومن المكسرين- لنتذكر تهمة العصابات المسلحة في سوريا والمندسين في لبنان -ولذلك، يستحقون تركيعهم وتجميدهم. المشكلة ليست في البروباغندا التبريرية، التي يستند إليها الوزير، فحسب، بل في أن قوله يدين نفسه. فحتى لو كان هؤلاء، كما يخبر عنهم، فبديهية الإشارة إلى أن التعامل المناسب معهم لا يجري بهذا الشكل القمعي. غير أن الوزير ينقطع عن كل المكتوب، عن تلك الأوضاع (الجنوح، التكسير...)، مثلما ينقطع عن فهمها طبعاً. وهذا الانقطاع هو سمة من سمات عهده، الذي لا يهوى سوى الماركتينغ برفورمانس: "كيف تصير رجل أعمال ناجح". وداعاً أيتها المعارف!

ليس فيديو مانت-لا-جوا سوى منذر من منذرات "التطبيق" الفعلي، واستعمال عبارة "تطبيق" مقصودة لأنها من قاموس الفرنش-تيك، للسياسة الماكرونية، التي تبدو في هذه الأيام، التي تمر على الجمهورية، انها لا يمكنها "النجاح"-من القاموس نفسه طبعاً- سوى بالتعرض لحقوق الضعفاء في الاجتماع الفرنسي. هؤلاء هم المنتمون إلى الطبقات المتدنية من شغيلة وطلاب وأجانب، أي الذين لا يقدرون أن يتقاسموا مع وزير العمل والحسابات العامة، جيرال دارمانيا، شكايته، التي صرح بها لكي يؤكد أنه يفهم وجع المحتجين أصحاب السترات الصفراء: "علينا جميعاً أن نفهم [معنى] العيش بأجر 950 يورو شهرياً في حين أن فاتورة المطاعم في باريس تصل إلى 200 يورو حين تدعو أحداً إليها ولا تشربون سوى النبيذ". عينة من عينات المنطق المنقطع، إعادة تشكيل للمنطق الذي يؤلف جملة "فليأكلوا بسكويت" التاريخية. 

بعد ذلك، المسألة ليست مسألة مواجهات بين المتظاهرين والشرطة، وليس مسألة السلوك العنيف المتكرر للشرطة، بقدر ما إنها مسألة عهد عاقد النية، وبكل حماقة، على أن يكون ممثلاً لطبقة ضئيلة، وأن يصرف النظر عن كل ما لا ينتسب إليها. عاقد النية على أن يكون النموذج الأمثل لنقل السلطة من السياسة إلى الاقتصاد. عاقد النية على أن يفرفط فرنسا إلى أسهم ويبيعها. المسألة أن الفاشية الجديدة، بكل رداءتها، وقد حكمت، وهي لن تنفع سوى الفاشيات المماثلة لها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها