الإثنين 2018/12/03

آخر تحديث: 19:42 (بيروت)

جنّة البطالة

الإثنين 2018/12/03
جنّة البطالة
increase حجم الخط decrease

أستيقظ عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً. أعتبر نفسي محظوظاً، إذ أن دوام العمل يبدأ عند التاسعة، وليس علي الإستيقاظ مع بزوغ الفجر. ومع ذلك أترك السرير رغماً عني. 

أرغم نفسي على تغيير ثيابي. أنظف أسناني. أتثاءب. بالكاد أنظر إلى نفسي في المرآة لأسرّح شعري، ثم أخرج إلى العمل. 

أعتبر نفسي محظوظاً مجدداً، حين لا أعلق في زحمة السير، إذ أقطن في بيروت وعملي يقع خارج المدينة، إذاً أنا أقود عكس الآخرين. مع ذلك، أكره القيادة في الصباح. وحين أرى الموظفين يسيرون في موقف السيارات، بعد أن يركنوا سياراتهم، أشعر أننا مبرمجون للقيام بالروتين ذاته كل يوم، كالحواسيب تماماً. 

أشرب قهوتي على مهل، ثم أبدأ العمل. نجلس جميعاً، ستة أشخاص، إلى طاولة مستطيلة، كل أمام جهاز الكومبيوتر الخاص به. خلفنا طاولة أخرى، عليها ستة أشخاص أيضاً. يخطر لي أنّ على أحدهم التقاط صورة لنا وتعليقها في المدارس بعد أن يكتب تحتها مخاطباً التلاميذ: استمتعوا بالمدرسة.. فالعبودية التي تنتظركم ليست أفضل. 

يقول أحدهم أن الفرق بين الوظيفة والعبودية هو الموافقة، أي موافقة الشخص على أن يؤدي عملاً يتقاضى مقابله أجراً. لكن، حين تفرض عليك ظروف اقتصادية خانقة، والشحّ الشديد في فرص العمل، البقاء في الوظيفة، تتحول الوظيفة إلى عبودية، خصوصاً حين يستغل أصحاب العمل هذه الظروف ويطلبون منك ساعات عمل إضافية. 

الظروف الإقتصادية الصعبة غير مؤاتية حالياً للقيام بشيء. فأنا لم تسنح لي فرصة عمل جديدة منذ سنوات. أقول لنفسي أن الوظيفة الآن مكان آمن، ثم أتذكر ما تردّده أمي دائماً: لا أحد يموت جوعاً، الكلاب في الخارج شبعانة. 

أجلس إلى الطاولة، وأشعر بوجود كرة حديدية مربوطة بجنزير إلى قدم كلّ منّا، تذكّرني بأغنية قديمة للعبيد سمعتها يوماً تقول: "سأكون سعيداً جداً حين تغرب الشمس". أنهض عن الكرسي وأتجه إلى النافذة. في الشارع يقف شرطي سير تحت الشمس، يشعرني بالحسد، فنحن بالكاد نرى الشمس، وحين نخرج مع انتهاء الدوام، يكون الظلام قد حلّ. قال لي أحد السجناء يوماً: كل شيء تحت الشمس أفضل، حتى الفقر، الفقر تحت الشمس أقل وطأة.

ينتهي دوام العمل عند السادسة مساء. عند الواحدة، استراحة الغذاء، ثم تحلّ استراحة أخرى عند الساعة الرابعة حيث نجلس على الدرج ندخن سيجارة، فالتدخين داخل الشركة ممنوع. أقف بالقرب من زملائي أراقبهم يتبادلون الأحاديث، جالسين على الدرج، كالبؤساء. أرغب في التقاط صورة لهم، قد يجدها أحدهم بعد مئة عام وينشرها في موقع شبيه بالفايسبوك، مرفقة بكابشن: مجموعة من العبيد أثناء الإستراحة في العام 2018. أضحك. 

قبل نهاية الدوام بنصف ساعة، يأتي إخطار بأن أحد الزبائن لديه إعلان طارئ جداً، يريد نشره في جريدة الغد، يشعرني أنني في غرفة إنعاش أستقبل حالة طارئة. ساعة عمل إضافية غير محسوبة، يعني أني لن أستطيع ممارسة الرياضة في المساء. 

أعود إلى المنزل مرهقاً. أقود سيارتي مسرعاً، وإذا واجهتُ سائقاً يقود ببطء أضغط بوق السيارة حتى أتخطّاه، أتحاشى ألف حادث كان على وشك الوقوع. أصل ،المنزل وأستلقي على الأريكة. أرغب في النوم، لكني، إن لم أخرج وأقضي بعض الوقت مع الأصدقاء، فسيكون يومي قد ضاع هباءً. خمسة أيام في الأسبوع تضيع هباءً. يبقى يوما عطلة، واحد للراحة والآخر للقلق بشأن بداية الأسبوع المقبل. يخطرني الهاتف فجأةً بوجود بريد من الشركة: "لقد تقرّر يوم السبت دوام عمل عادي، استثنائياً هذا الأسبوع، بسبب ضغط العمل، التغيّب ممنوع". ممتاز.
 
أفكر أني بالرغم من الظروف الصعبة في البلد، أتقاضى راتباً جيداً، أكثر مما أنا بحاجة إليه. لكن، إذا ما قارنته بما أقدّمه من الوقت والجهد، وما أنجزه من العمل، يتحوّل إلى راتب زهيد جداً. أقول ذلك لأصدقائي، فيحدثونني عن فضيلة العمل ورذيلة البطالة، يذكّرونني بصعوبة إيجاد وظيفة والجنّة التي أنا فيها.
 
أنهض في الصباح لأكرر النهار نفسه، والروتين نفسه، للمرة الألف، أحدّث نفسي: كل شيء تحت الشمس أفضل، الكلاب في الخارج شبعانة.

أصل إلى الشركة وأدخل غرفة المدير، أقدّم له ورقة اقتطعتها ليلة أمس من دفتر قديم وكتبت فيها: "أخطركم باستقالتي من الشركة، ورغم يقينكم مسبقاً بأن هذا اليوم لا بدّ آتٍ، فلا شيء قادراً على تخفيف وطأة الخسارة عليكم… آسف". 

أغادر الشركة، مودّعاً العبودية وتستقبلني جنّة العاطلين عن العمل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها