الثلاثاء 2018/12/11

آخر تحديث: 15:00 (بيروت)

فرنسا اللبنانية

الثلاثاء 2018/12/11
فرنسا اللبنانية
فرنسا أفضل من مثالها الفرانكوفوني
increase حجم الخط decrease
من تعليق إحدى الإعلاميات في "تلفزيون المستقبل" على المتظاهرين في فرنسا، السبت الماضي، بأنهم "عرب مجنسون"، إلى الخبر الكاذب الذي نشره موقع "أو تي في" حول الشرطية التي صرخت بالمتظاهرين إياهم ألا يفعلوا بفرنسا كما "فعل العرب بأوطانهم"، يمكن القول أن فرنسا اللبنانية، التي ينطلق من تصورها كل من الإعلامية والموقع، هي المثال غير المتصل بحقيقته الواقعية البتة.
ففرنسا اللبنانية هذه، التي تتألف من كليشيه عريض، غير موجودة. وعندما يشعر المتصورون لها انها على هذا النحو، يحاولون، وبكل هراء، أن ينفوا ذلك. طبعاً، النفي هنا هو للحفاظ على وظيفة المثال ذاته، التي تتأرجح بين الاقتداء والمقارنة به، ودائماً، الإشعار بالنقص بسبب الابتعاد عن التماهي التام معه. لكن، ما الذي يجعل هذا المثال، أي فرنسا اللبنانية، متواصل الوجود، مع أنه فعلياً ليس كذلك؟ 

هناك مؤسسة تدعى الفرانكفونية في لبنان، تشتغل من المدرسة إلى الجامعة، وبينهما، المنزل والنادي، ومعهما، الصحيفة ودار النشر. وهذه المؤسسة تنتج ذلك المثال. تنتج التأطير اللبناني لفرنسا بفصلين أو ثلاثة من التاريخ، وبلغة خشبية تظن أنها ذهبية، وببعض ما يوصف بالانجازات الأدبية، التي تبدو احياناً مكتوبة باليد ذاتها، والتي تفوقها الاطروحات الأكاديمية المؤلفة عنها حجماً، وإلى كل ذلك، من المتاح إضافة الاحساس بالغرور.

هذه المؤسسة تصنع صورة فرنسا على هذا الشكل. على شكل كان يفيد نخبتها. لكنه، ما عاد يحقق ذلك، لأن هذه النخبة، وببساطة، انهارت، ولا تتوقف عن الانهيار. على أن ورثتها حاولوا تحديث المثال، فرنسا اللبنانية، قافزين بها من الديغولية إلى العهود اللاحقة، لا سيما العهد الساركوزي، وموزعين مرحلتها التحررية، ايار/مايو1968، كمجرد أثر فني في الجامعة والمعرض والمركز، ومشددين على موقع البنك وشركة البرمجيات فيها إلى جانب المطعم ومكتب المحاماة، ومضيفين الشاشة الى الصحيفة، والخشية الى الغرور. 

على أن هذا المثال، وبنسختيه، الأساسية وسخفها، أو الأصلية والفصلية، ظل متمحوراً حول طرد كل ما لا يمت له بصلة منه. فلا يمكن لفرنسا أن تكون غيره، وفي حال ظهرت كغيره، فلأنها تتعرض لغزو أجنبي همجي، لا بد من القضاء عليه.

لكن المثال لم يواصل وجوده بسبب مؤسسة الفرانكفونية فحسب، بل لأن نقد هذه المؤسسة كان، وفي متنه، باطلاً. خلاصته السخرية على التحدث باللغة الفرنسية للتهكم على الانتماء إلى هوية طائفية وطبقية. وحتى عندما جرى نقد النقد، صار الاطلاع على فرنسا المغايرة، أو بالأحرى الأوسع من فرنسا اللبنانية، سبيلاً من سبل التشبيح الثقافي والمعرفي، لا أكثر ولا أقل. 

بالتالي، استمر المثال كصورة وحيدة عن فرنسا في لبنان، رغم حركة الذهاب والإياب بين البلدين، ورغم تحولات البلدين أيضاً. فلم يعرف اللبنانيون عن فرنسا غير تكرار أنها "الأم الحنون"، بلا أي سؤال عن حالها. لا يهم، ما دامت أمّاً تطعم وتدفئ. وما دام زوجها، أي العهود المتتالية، يحبنا لأننا "مندمجون" أكثر من "آكلي الكباب".

لا شك أن فرنسا اللبنانية ليست فرنسا. كما أن فرنسا، بكل اجتماعها، لا تتماثل في شيء مع مثالها الفرانكفوني. والسبب هو أنها أفضل منه بكثير. 

لكن، لا شك أن اللبنانيين في فرنسا لا تختزلهم الخبريات عنهم في فرنسا اللبنانية. فليس كلهم يعتقد بأن حب فرنسا يعني عدم النظر إليها سوى كأمّ عندما تتوقف عن "حنانها"، يبدأ شتمها. 

فرنسا اللبنانية مجرد مثال غير موجود، الا أنه، وعندما يتبناه لبنانيو فرنسا، يبدو وجوده مشروطاً بشيء وحيد: أن يكونوا مواطنيه بمزج الدونية مع التشاوف، والتعامل مع أي أغيارهم برميهم بدروس الاتيكيت. فرنسا اللبنانية هي ضد فرنساً أيضاً!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها