الجمعة 2018/11/09

آخر تحديث: 19:05 (بيروت)

ماكرون يطوّع التاريخ.. وفرنسا تتصدى له

الجمعة 2018/11/09
ماكرون يطوّع التاريخ.. وفرنسا تتصدى له
لعل ماكرون أراد استمالة اليمين، لكن لعبه بالنار تحول إلى خطيئة يكاد يصعب ترقيعها
increase حجم الخط decrease
يزخر التاريخ الفرنسي بمحطات وشخصيات تركت بَصمَتها. إلا أن الروايات الرسمية لمختلف الحقبات التاريخية، تظهر إن فرنسا لم تكن دوماً محط إجماع، كما أن عدداً من الروايات احتمل إعادة النظر بعد مدة، فأعيد الاعتبار لشخصيات كانت منبوذة في السابق لا سيما تلك التي أدت أدوراً تحتمل تأويلات متباينة، فصنعت مرة مجداً ومرة أخرى عاراً وطنياً.

لكن يبدو أن التعرض لبعض من هذه الروايات ما زال محرّماً، وهو حال المارشال فيليب بيتان.

من الناحية النظرية، يُفترض بالمناسبات الوطنية أن تتحول إلى محطة تعزز الانتماء الوطني والتلاحم بين أبناء البلد، لكن على أبواب الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، تشهد فرنسا شرخاً كبيراً بسبب تصريحات ايمانويل ماكرون التي تناولت المارشال فيليب بيتان.

بناءً على رغبة قيادات الجيش، تقرر تكريم مارشالات "الحرب الكبرى" بمناسبة مرور قرن على انتهائها. فيليب بيتان هو واحد من ثمانية مارشالات صنعوا مجد فرنسا العسكري خلال الحرب العالمية الأولى، وارتبط اسمه بمعركة فردان الشهيرة. لكن التاريخ يكاد يطمس هذه الصفحة من حياته ولا يذكر من سنوات عمره الـ95 إلا "عمالته للاحتلال النازي" إبان ترؤسه حكومة فيشي.

يوم الأربعاء، قال ماكرون إن "تكريم بيتان أمر مشروع، فهو جندي عظيم وهذه حقيقة تجعل الحياة السياسية، كما الإنسانية، أكثر تعقيداً مما نتصور". وأضاف الرئيس الفرنسي أنه "من الممكن أن يكون جندياً عظيماً خلال الحرب العالمية الأولى ثم عاد وسلك طريقاً كارثياً خلال الحرب العالمية الثانية".

ورغم أن قصر الإليزيه سعى إلى إعادة تصويب الجدل، مؤكداً أن ما من تكريم سيحظى به بيتان، والأمر سيقتصر على الجنرالات الخمسة المدفونة رفاتهم في مقبرة العظماء، إلا أن هذا التوضيح لم يشفع لماكرون، واستمر تنامي السخط في البلاد لا سيما في الأوساط اليسارية واليهودية.

فالرئيس السابق فرنسوا هولاند اعتبر أن التاريخ لا يُجَزّأ، وأن اسم بيتان ارتبط بالخيانة والعمالة وترحيل آلاف اليهود الفرنسيين.

من جهته قال بينوا هامون، مرشح الحزب الاشتراكي لانتخابات 2017 الرئاسية، في تغريدة له، إن هناك تناقضاً بين تكريم ماكرون لسيمون فاي (إحدى ضحايا الهولوكوست) قبل أشهر، وعدم ممانعته تكريم بيتان العميل.

فيما استفادت قيادات يسارية أخرى من هذا الجدل لتصوب سهامها على ماكرون وسياساته. فالمرشح جان لوك ميلانشون، وهو مرشح اليسار المتطرف لانتخابات 2017 ، كتب: "هذه المرة طفح الكيل" في إشارة إلى تنامي حالة السخط من ماكرون في الشارع الفرنسي، مضيفاً إن تاريخ فرنسا ليس لعبة.

وعلى اعتبار أن ترحيل اليهود هو أحد أوجه العمالة الفرنسية، وهي مسألة بالغة الحساسية في الشارع الفرنسي، كان لمواقف المنظمات اليهودية صداها الذي تردد في وسائل التواصل الاجتماعي. ففي تغريدة في صفحته الرسمية، عبّر المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا عن صدمته، معتبراً أنه "لن نذكر من مسيرة بيتان إلا محاكمته العام 1945".

تصريحات ماكرون فتحت الباب على جدل أكاديمي، كانت الإعلام مسرحه بامتياز. فاعتبر مؤرخون أن كلام الرئيس عن حقيقة تاريخية لا يمكن التغاضي عنها، هو في غير مكانه. وكان طبيعياً لو صدر عنهم كأكاديميين، لكن أن يأتي على لسان ماكرون ففي الأمر خلط للوظائف والأدوار.

كما دار تراشق بين بعض المؤرخين، ففيما رأى بعضهم أن استثناء بيتان من التكريم يطمس صفحة من تاريخ الحرب، لا سيما وأن المارشال المذكور تمتع بشعبية واسعة في الأوساط العسكرية، استهجن آخرون التكريم المفترض، مخافة أن يطغى ذلك على دوره السلبي خلال الحرب العالمية الثانية.

وحتى لا يعتقد الفرنسيون أن كلام ماكرون سابقة، اعادت الصحف التذكير بمواقف رؤساء الجمهورية السابقين إزاء هذه الشخصية. من شيراك إلى ميتران وجيسكار ديستان، جميعهم شددوا على ازدواجية هذه الشخصية في الحربين العالميتين. فالرئيس شارل ديغول نفسه لم يغفل دور بيتان في معركة فردان.

ومع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي، بدا أن ماكرون يسعى إلى استمالة ناخبي اليمين المتطرف الذين يتخذون من بيتان رمزاً. لكن لعب ماكرون بالنار تحول إلى خطيئة يكاد يصعب ترقيعها.

تلاشت حدود السياسية والتاريخ أمام أحد أكثر الشخصيات الفرنسية إثارة للجدل، فمقاربة مسيرة بيتان بصورة إيجابية، يُعتبر أحد التابوهات الفرنسية. ومن جهة ثانية، لا يمكن فصل رد الفعل هذه عن مزاج الشارع الفرنسي تجاه سياسات ماكرون. فالآمال الكبيرة التي علقت على الرئيس الشاب تتبخر شيئاً فشيئاً. وفي حين يبدو المستقبل الاقتصادي لفرنسا شديد الضبابية، اتضح أن الرأي العام غير مستعد لخلط أوراق التاريخ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها