الخميس 2018/11/22

آخر تحديث: 18:01 (بيروت)

التلفزيون يذوب بسرعة.. والسينما "كتاب" المرئي- المسموع

الخميس 2018/11/22
التلفزيون يذوب بسرعة.. والسينما "كتاب" المرئي- المسموع
increase حجم الخط decrease
الأرجح أنه انقلاب ضخم، لكن نشرة أخبار واحدة من المذيع الافتراضي كانت كافية لإحداث "تسونامي" في صناعة التلفزة المعاصرة، بل مجمل مسار المرئي- المسموع. لم تكن الخشية من حلول المذيع الافتراضي بديلاً للبشري سوى المستوى المباشر لتغيير أكثر عمقاً. 

الأرجح أن هناك زاوية اخرى في ذلك الأمر تتمثّل في السينما التي صارت كأنها "الكتاب الورقي" للنصوص المرئيّة- المسموعة، كما سيرد بعد سطور قليلة. 

وتذكيراً، في مطلع تشرين أول الجاري، ظهر أول مذيع تلفزيوني مصنوع بتقنيات الذكاء الاصطناعي، إذ قدّمته الصين أمام "المؤتمر العالمي للإنترنت" كأحد المؤشرات على تمرّسها وتقدمها في التقنيات الرقمي. وصُنِع بمزيج من تقنيات المحاكاة الافتراضيّة، خصوصاً تلك المتصلة بتقليد أصوات البشر ومحاكاة حركاتهم وغيرها. إذ حاكى المذيع الافتراضي "نظيره"  البشري (هو المذيع زانغو زهاو المشهور في الصين)، وقلّد تقنيات تفاعليّة حركات الوجه والعيون، والتمايلات الخفيفة للجسد والثياب وغيرها. وصنعته أساساً شركة "سوغوو"  Sogou، وهي محرك رقمي للبحث عن المعلومات، بل تعتبر الموازي الصيني لـ"غوغل".

لم يكن روبوت فعليّاً، بل صورة رقميّة تفاعليّة أساسها المحاكاة الافتراضيّة، لأن تقليد حركات البشر الدقيقة، كالعين التي ترمش مرّة كل 2- 10 ثوانٍ، يقتضي توفر آلات فائقة للتحكّم بالجلد الاصطناعي، وهي لا زالت غير موجودة. وحتى الروبوت- الأنثى "صوفيا" التي تفاخر صُنّاعها بقدراتها في التعبير في الوجه، لا تملك سوى عدداً محدوداً من تلك التعابير.

دهشة.. صدمة
إذ قيل ذلك، يعود الكلام إلى حال الدهشة الممزوجة بالخشية والخوف، التي استولت على شاشات التلفزة ما يؤشّر على أن المذيع الافتراضي، ضرب عصباً متوتراً في عمق صناعة التلفزة. ومن دون اتفاق مسبق على الأرجح، أبدت مجموعة كبيرة من أقنية التلفزة عالمياً وعربيّاً ردود فعل متشابهة على المذيع الافتراضي.

ومثلاً، مازحت مذيعة نشرة أخبار في قناة "الجزيرة" الجمهور بالقول أنّ المخرج أصرّ على إذاعة الخبر الذي يعني أن المذيع الافتراضي سيكون بديلاً لها وزملائها في زمن ليس بالبعيد. وتكرّر الأمر عينه على شاشات عالمية كـ"سي آن آن" و"بي بي سي" و"تي في سانك" و"أورنيوز" وغيرها. وحتى أقنية الراديو العالميّة كـ"مونت كارلو" والمحليّة التي تبثّ عبر موجات الـ"أف أم"، شاركت التلفزة حال الخشية والارتباك الممزوج بالانبهار، من تحوّل صناعة المسموع (الراديو) إلى مساحة يتبدّد فيها حضور البشر لمصلحة صوت المذيع الافتراضي.

هل تلك خشية في محلها، أم مجرد رد فعل أوّلي على صدمة الإنجاز التقني؟ ألا يبدو أن ذلك المذيع مؤشّر على مسار أكثر عمقاً يبدو فيه التلفزيون كأنه يتبدّد ويذوي ويذوب بسرعة أمام التحوّل الرقمي، خصوصاً الإنترنت. في المقابل، يمارس الكتاب الورق وجزءٌ واسع من الإعلام الورقي، صموداً أسطوريّاً يحصل معظمه عبر إعادة صياغة وظيفة الورقي ودوره ومساراته ومساحاته، كي يتعايش مع الوسيط الإعلامي الرقمي الذي يتابع صعوده المدفوع بقوة التطوّر والتقدّم. ليست مجازفة القول بأن التفكير "ضد الرقمي" هو عبثي تماماً ويسير عكس الزمن، فيما يكون أقرب إلى مجريات الأمور القول بالتفاعل والتكامل بين الوسيطين الرقمي والورقي. ربما هي أيضاً خلاصة تفيد الإعلام المرئي- المسموع التقليدي، بمعنى الإشارة إلى ضرورة تغيير دوره في الإعلام العام الذي هو هجين وخليط من وسائط متنوّعة، مع كون الرقمي واسطة العقد فيه.

السينما تحتفظ بهويّة بصرياتها
إذاً، ربما يكون التلفزيون مرشحاً للذوبان بسرعة في الرقمي وشبكاته. ويكفي النظر إلى الشاشات التلفزيونيّة حاضراً التي تسير بسرعة صوب الشاشات الذكيّة. ويمكن ربطها مع الكومبيوتر بسهولة. والأهم ربما هو تجربة كـ"تلفزيون آبل" وهو جهاز يربط مع التلفزيون كي يقدم محتوى الإنترنت عليها، إضافة الى البث المتلفز. وفي العام 2017، ظهرت أداة رقميّة لا يزيد سعرها عن 10 دولارات، لكنها تستطيع تحويل أي شاشة تلفزيونية حديثة إلى شاشة ذكيّة، عبر ربطها مع الإنترنت عبر الـ"واي- فاي" المنتشر في معظم المنازل. 

في أحد مناحيها، تمثّل الإنترنت شبكة تربط كومبيوترات، ومع سير التلفزيون إلى كونه نوعاً من كومبيوتر يتلقى بثاً متلفزاً، يكون ربطه مع الإنترنت تكريساً لتحوّل الشاشة الفضيّة إلى شاشة ذكيّة يديرها الذكاء الاصطناعي للكومبيوتر والشبكات الرقميّة.

بقول آخر، هناك وسيط مشترك بين التلفزة والإنترنت يتمثل في الشاشة الرقميّة الذكيّة، وهناك محتوى مشترك أيضاً يتراكم بصورة متصاعدة، خصوصاً مع البث التدفقي لأشرطة الفيديو عبر الشبكات. والأرجح أنه صار بديهياً القول بأن تجربة شركة "نتفليكس"، تقدم نموذجاً يومياً عن اندماج التلفزة مع الإنترنت والكومبيوتر. 

إذ يوصف الصعود المستمر لظاهرة "نتفليكس" حاضراً بأنه يمثّل اللحظة الأكثر تقدّماً في المشاهدة البصريّة على الشاشات الرقميّة، مع معادلة تفيد بتمكّن صنّاع المحتوى البصري على الـ"ويب" من السيطرة على المرئي- المسموع وجمهوره وشاشاته.

وارتسمت تلك المعادلة بانتقال نموذجي لـ"نتفليكس" من دور في نقل المحتوى البصري المتلفز عبر الفضاء الافتراضي للإنترنت، إلى دور في صناعة المحتوى التلفزيوني أيضاً. وذكر ذلك بانتقال "سي إن إن" من نقل المحتوى التلفزيوني عبر الكوابل والستالايت إلى المحتوى التلفزيوني الفضائي.

وكذلك ظهر تألّق معادلة "نتفليكس" في اعتزامها التوسع بميزانيتها في صنع المحتوى إلى 8 مليارات دولار في 2018، بالترافق مع رفع اشتراكها الشهري لجمهور بدت كانت واثقة من تملكها خيالاته وعيونه وشاشاته. وترك ذلك تأثيرات متنوّعة، من بينها سعي شركة "فايسبوك" إلى وضع محتوى تلفزيوني في صفحات السوشيال ميديا، لكنها أقل نجاحاً من "نتفليكس".

التفاعل من أجل الاستمرارية
ربما يطول النقاش في شأن استيلاء الإنترنت على البث التلفز، خصوصاً أن "نتفليكس" ليست وحيدة في ذلك، بل صار كثير من المحتوى المتلفز (خصوصاً المسلسلات)، يصنع بأيدي شركات الإنترنت. وتميّزت "نتفليكس" بالانتقال إلى صناعة أفلام السينما، ما اعتبر نقلة نوعية في علاقة المشاهد مع الأفلام، خصوصاً أن أفلامها الأولى قدمت إلى الإنترنت، قبل وصولها الى الصالات. وشكّل ذلك نقطة اعتراض على مشاركة "نت فليكس" في مهرجان كان للسينما، ثم سقط الاعتراض مع انتشار أفلام تصنعها "نت فليكس" في الصالات. 

وتبرز مفارقة صغيرة في ظاهرة شاشات السينما تتغيّر صوب الارتباط المباشر مع الإنترنت.
في المقابل، يجدر تذكر أن الوسيط السينمائي متميّز نوعياً عن شاشات الترفيه المنزلي (خصوصاً التلفزيون) والأجهزة الذكيّة كلها، أقلّه لحد الآن. وكذلك لم تنخرط السينما في الترفيه اليومي الذي تمدد فيه التلفزيون قبل استيلاء الرقمي عليه.

تبدو السينما أقرب إلى الرواية (وهي قلب صنع الأفلام)، بمعنى أنها تصوغ نصاً بصريّاً لا يكون عصبه هو المشاهدة اليوميّة، بل صنع محتوى له زمنه المستقل، ويمكن استعادته دوماً، ويتحكم المشاهد في العلاقة معه. وإذ قيل ذلك، توجّب إضافة أن السينما تميل إلى التكامل مع التحوّل الرقمي، لكن مع الاحتفاظ على تميّزها. وهناك ما لايحصى من التقاطعات بين السينما والرقمي، ليس أولها أفلام المحاكاة بالكومبيوتر "أنيماشن"، ولا أوسطها شراء شركة أفلام سينما كـ"ديزني" لشركة تقنيات رقميّة ("بيكسار")، ولا اخرها صفقة شركة "آبل" مع المخرج ستيفن سبيلبرغ لصنع أفلام سينمائيّة خاصة بها. ومع توقع بأن يصل نصف محتوى التلفزيون (هو قلب ما تستند إليه معادلة "نت فليكس") الجمهور في 2020 عبر الهواتف الذكيّة التي يحتل "آي فون" مكانة مرموقة فيها. 

إذاً، تميل السينما إلى التفاعل والتكامل مع الرقمي مع الاحتفاظ بتميّزها كوسيط بصري، ويسير الإعلام الورقي (وضمنه الكتاب) إلى مسار مُشابه، أما التلفزيون فالأرجح أنه أقرب الى الذوبان في العوالم الافتراضيّة للإنترنت والوسيط الرقمي عموماً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها