السبت 2018/11/17

آخر تحديث: 15:17 (بيروت)

يوسُف وتاليا ونبيل بري

السبت 2018/11/17
يوسُف وتاليا ونبيل بري
من الصعب أن ينشأ طفل في الجنوب من دون أن تترسخ في ذهنه صور القياديين والشهداء
increase حجم الخط decrease
بسبب توقفي عن العمل وحاجتي للراحة، قضيت العطلة الصيفية الماضية في بلدتي كفرتبنيت (جنوب لبنان)، حيث رمّمت منزلاً صغيراً مع حديقة متواضعة بألوان زاهية. 
كنت استيقظ باكراً، أنا من يكره هذه العادة التي أعتبرها سيئة، للوقوف الى جانب العمال في الورشة، وتأمين احتياجاتهم من طعام وشراب وباطون وبلاط وبويا وأسلاك كهربائية...

في الضيعة تتطوّر العلاقة بين صاحب الورشة والعمّال، او هذا ما تربيت عليه: تأمين وجبتي الفطور والغداء، والأكل والضحك على أخبارهم التي لا تنتهي. كأنني كنت اسفنجة تمتص كل ما تصطدم به من أخبار، وتُخرجها أسئلة عن هذا أو ذاك.

أعدت اكتشاف البلدة وناسها، وإجتمعت بأصدقاء لم أرهم منذ مدّة بعيدة، سهرنا معاً وأعدنا ذكريات جميلة أيام الاحتلال، فيما تحاشاني بعض الاصدقاء، إما لالتزامهم الديني والسياسي، أو لاختلاف في وجهات النظر. 

كنت أحمل الكاميرا، وأجول في الضيعة، فيسأل البعض عنّي، ماذا ولِمن أصوّر هذه اللقطات؟ غريب خوف الشعوب العربية من الكاميرا، كما لو أنها تُوثّق خطايانا، أو تفضح بشاعتنا!
خلال هذه الصيفية الجميلة والآسرة، أعدت إكتشاف أمي الحنونة وأبي الطيب، وإخوتي الثمانية. وبما أن زوجتي تعمل كان يوسُف وتاليا دائماً معي.

إذاً تحوّلتُ من عاطلٍ عن العمل، إلى أمّ وأبّ وصاحب ورشة. في القرية جدّدت العلاقة مع وَلَديّ، واكتشفتهما مجدداً، كما لو أنهما ولدا أمس. لاحظت فجأة أن يوسُف نما وبات يُراقب ويُلاحظ كل شيء حوله، وأسئلته واضحة. كأن يسأل مثلاً: لِماذا كل أطفال الجنوب إسمهم علي أو حسين؟

أما تاليا، شيطانتي الأنيقة، فباتت تُحب الأرض أكثر، واللعب مع أصدقاء جدد، وتعوّدت على صوت بائع اللآيس كريم الذي يمر كل ظهر من أمام المنزل، فتنتظره بجسدها الضئيل والممشوق، كما لو أنه الحبيب.

توطدت علاقة يوسُف وتاليا بالمال، وباتا يعرفان بعض الفئات منها. وعندما يحصلان عليه يقصدان دكانة أبوعلي حبيب، أقدم بائع في القرية، وصاحب القلب الأطيب. والمفارقة أنهما كانا يشتريان كمية أكبر بكثير من قيمة المال الذي معهما، فأذهب مسرعاً الى الرجل الطيب لأحاسبه بالباقي.

ومن الشخصيات التي تعرّف الولدان إليها، السيد موسى الصدر و"نبيل بري" كما قررت تاليا أن تسمّي نبيه بري. ذات مساء، أخبرني حبيبي يوسُف أن نبيه بري أقوى رجل في لبنان، والجميع يحبّه في القرية، وأنه يحب نبيه بري ويريد مقابلته والحديث معه قليلاً عن المدرسة وأصدقائه فيها.

أما تاليا، ففي البداية لم تُحب "نبيل بري"، أغرمت بموسى الصدر، بلحيته البيضاء وعمامته. تسألني بلغتها الطفولية: "ببّا ليه جدوّ (موسى الصدر) بيحط طاقية عراسو، ونبيل بري لا؟".

كلما رأت صورة الإمام الصدر، صرخت: "ببّا شوف السيد موسى". بات الولدان يتنافسان على حب الرجلين، يتكلمان عنهما دائماً. ولفترة من الزمن شعرت أن الإمام ونبيل يعيشان معنا.

كنت جالساً في الجنينة، حين لمحتُ تاليا مستاءة وحزينة. سألتها عن السبب فأجابتني: "ليه إسرائيل قتلت موسى الصدر، ما بدي ياه يموت". 

عرفت لاحقاً أن علي إبن أخي، والمتواجد دائماً مع الولدين، يخبرهما كثيراً عن الرجلين. وراح يوسُف يشارك معه في الكشاف، وكل يوم يأتينا بأخبار جديدة عن "نبيل بري". توطدت العلاقة كثيراً بين يوسُف وتاليا، والشخصيتين الشهيرتين. كلما مشينا في البلدة أو البلدات المجاورة، نرى الرجلين ينظران الينا، إلى أن سألت تاليا مجدداً عن كثرة الصور لهما في كل مكان. 

من الصعب أن ينشأ طفل في الجنوب من دون أن تترسخ في ذهنه صور القياديين والشهداء، ما يُنتج أسئلة عن الموت والبقاء والوجود والفراق. 

يُختصَر الجنوب في هذه الصور والانتماءات، فالآخر غير موجود، وإن وُجد فهو مهمّش، وغير مؤثّر. 

في الضيعة أعدت إكتشاف أن ما تركته منذ 20 سنة. ما زال على حاله، مع بعض الانقسامات والتجديد في المناصب، لا في الأفكار. ما يهمني من ذلك كله، تعرّف يوسُف وتاليا على الجميع في وطننا الصغير، ونشأتهما في مكان يعج بالألوان.

أخبرت الولدين في الضيعة، عن الحرب، وما عانيته وإخوتي إثر عدوان عناقيد الغضب العام 1996. كيف نمنا وبكينا بصمت، وكيف استمعنا برعب الى طائرة الهليكوبتر، تقف في السماء فوق منزلنا وتُدمّر الضيعة. أراد يوسُف تكسير إسرائيل، وتاليا ضرْبها بعصا.

حين إنتهت العطلة الصيفية، لم ترغب تاليا في العودة إلى بيروت. قالت أنها ستشتاق للرجلين في المدينة: "طيب أنا ببيروت بشتقلن". لكني أخبرتها أنهما موجودان هناك أيضاً، ففرحت، وجمعت أغراضها وغادرنا.

في الضيعة كره الولدان اسرائيل، وأحبّا "نبيل بري" وموسى الصدر. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها