الجمعة 2018/10/26

آخر تحديث: 15:22 (بيروت)

الأوزاعي واقتراح الانتهاء من "قرف الفقراء"

الجمعة 2018/10/26
الأوزاعي واقتراح الانتهاء من "قرف الفقراء"
عياد ناصر انشأ مشروع "اوزفيل" بغرض تحسين واجهة لبنان
increase حجم الخط decrease
تتراءى للبعض، عند سماع كلمة "أوزاعي"، مشاهد بصرية منفرة، اثر ارتباط المنطقة المعدومة على الساحل الجنوبي لبيروت، بصورة نمطية، ملخصها الفقر والعشوائيات. وأصبح هذا الأمر تلقائياً بعد عقود من الإهمال والتهميش الذين شهدتهما المنطقة فتحوّلت إلى حاضنةً للبؤس ورمزاً له، بعشوائية عمرانها، وفقر سكانها، وورداءة بنيتها التحتية التي شهدت أسوأ أحوالها أمس اثر العاصفة

الحلّ إذاً يكون بتغيير إسم الأوزاعي إلى "أوزفيل"، كلمة برنّةٍ أجنبية، وطلاء جدرانها القاتمة برسوم فنانين مستوردين من الخارج. 

هكذا إرتأى عياد ناصر، صاحب مشروع "أوزفيل" الذي إنطلق منذ حوالى عامين، آملاً إخراج الأوزاعي من جوف الحرمان المزمن. 

ناصر هو رجل أعمال لبناني مغترب، عاد إلى بلده حاملاً على كتفيه قضية تحسين لبنان وتجميله. إستهدف منطقة الأوزاعي أولاً لأنها، وكما يقول، "واجهة لبنان وأوّل ما يراه السياح حين يخرجون من مطار رفيق الحريري". 

وهنا التناقض الأوّل الذي يقع فيه خطابه، إذ يتأرجح بين سرديتين. الأولى، هي النهوض بالأوزاعي بغية رفع جودة حياة سكانها، خصوصاً أنها المنطقة التي ولد فيها، مع تأكيده على الظلم الذي يعيشه أهالي المنطقة وضرورة الإلتفات إليهم. والثانية، هي تخليص لبنان نفسه من منطقة الأوزاعي، وتنقية صورته أمام العالم، بفلترة عناصرها التي لا تطابق معايير الجمال والأناقة. 
فالهدف المنشود هنا هو الجمال، والفقراء ليسوا جميلين. إنهم غير قادرين على صناعة الجمال حتى، بحسب منطق ناصر الذي لم يسلّمهم جدران منازلهم ليلونوّها، بل أتاهم بفنانين أجانب ليصلحوا الأوزاعي. 

صنّف ناصر ما يفعله في خانة "الإصلاح"، وهي مغالطة يقع فيها كالكثير من "الناشطين" و"المتنورين" اللبنانيين الذين يوازون بين التجميل والإصلاح. والمقصود بالتجميل هنا هو تصحيح صورة لبنان التي يعكّر صفوها الفقراء. والحلّ بالنسبة إليهم لا يكون بالقضاء على الفقر وإنما بإخفاء معالمه، لكيّ لا يضطر الغريب الآتي من الخارج إلى رؤيتها، أكان هذا الغريب سائحاً، أم لبنانياً من طبقةٍ اجتماعية أرقى.

يظهر ناصر في فيديو نشره أخيراً في "فايسبوك"، ليدعو الميسورين والمثقفين إلى "تنظيف" المناطق الفقيرة من الجهل والتكاثر. تتواتر في معجم ناصر، هذه المصطلحات التي تحمل دلالات كثيرة، فهي تساوي الفقر بالـ"وسخ"، وتحمّل الفقراء وزر فقرهم، وتدعو البرجوازيين إلى إرشادهم وتلقينهم دروس الحياة. وقد تكررت كلمة "القرف" أكثر من مرة على لسانه في الفيديو. 

يقول ناصر أنه أدخل "ثقافة النظافة والإحترام والوحدة" إلى منزل الفقير، وعلَّمه "كيف يكون إنساناً". كما أخرجه من قبضة المافيات والمخدرات، وذلك فقط عبر التنظيف والتلوين من دون حديثٍ عن تغيير في البنية التحتية، والفساد الذي يحكم منظومتها. 

ترمي مبادرة ناصر، ككثير من مبادرات "الريادة الاجتماعية" التي إستدخلتها ثقافة الـ"NGOs"، إلى تلطيف مشهد الفقر بدلاً من إقتلاعه من جذوره. فيحثّ ناصر الأغنياء على أن يحذوا حذوه ويموّلوا حملات كنس الطرق من غبار الفقراء لجعلها أقلّ إثارةً لقرف المارة الغرباء، لا أن يعملوا على توفير فرص عمل أو خدماتٍ أساسية من كهرباء ومياه ونظام صرف وصحي. وكأنه يدعوهم إلى الإغتسال من عقدة الذنب التي قد تحرّكها مظاهر الفقر والإهمال. وينسى مثلاً أن أزمة تلوّث شاطئ وبحر الأوزاعي لا تقع على عاتق أهالي المنطقة فحسب، بل غيرهم من سكان بيروت الذين، وبالرغم من نظافة بيوتهم، تنتهي نفاياتهم في مكبّ الكوستا برافا، أو في مصبات الصرف الصحي على طول شاطئ بيروت. هل هذا الوسخ أيضاً هو من صنع الفقراء؟

يذكر ناصر في الفيديو بفيلم نادين لبكي الأخير "كفرناحوم"، والذي يحاكي هو الآخر واقع الفقر في العشوائيات اللبنانية. وبالرغم من توجيهه بعض الإنتقادات للمخرجة، يتماهى ناصر تماماً مع خطابها الداعي إلى الحدّ من النسل لإستئصال الفقر. يطلب منها أن تنفق بعض أرباح الفيلم على الفقراء في سبيل "توعيتهم وإيقاف ولاداتهم وخرابهم وجهلهم". وفي ظلّ وقوع البلد بأكمله في أزمة نفايات مزمنة، يلتفت ناصر نحو الفقراء ويعطيهم مواعظ بالنظافة. بالطبع، إستخدمت لبكي لغةً أذكى وأرقى في تمريرها هذه الرسالة، لكن المضمون واحد وهو القضاء على الفقر بالقضاء على الفقراء. 

يردّد ناصر مراراً بأنه إبن منطقة الأوزاعي وأنه ولد فقيراً ثم عمل بكدّ ليصل إلى ما هو عليه اليوم؛ فقد بات مستثمراً عقارياً وفاعل خير. إلا أن خلفية ناصر الاجتماعية ونواياه الخيرية لا تبرّر نظرته للفقراء. فالحقيقة هي أن الفقراء السابقون قد يكونون أكثر من يفصح عن كراهيةٍ   للفقراء الحاليين.

فناصر هو واحد من أبناء ثقافة تحنّن الأغنياء على الفقراء عبر شنّ حملات التنظيف والتبرّع، من دون أن يدركوا أننا جميعاً في مركبٍ واحد، يغرق في نفايات نظامنا الاقتصادي والسياسي. وأن "التعزيل" يجب أن يبدأ من الأحياء الراقية قبل المعدومة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها