الخميس 2017/06/01

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

ماكرون وامتحان بوتين

الخميس 2017/06/01
ماكرون وامتحان بوتين
تصويب ماكرون على المؤسستين الإعلاميتين الممولتين من الكرملين، هو أيضاً نقد للسياسة الخارجية الروسية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
خلال قمة مجموعة الدول الثمانية الصناعية العام 2007، عقد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي مؤتمراً صحافياً بعد لقاءٍ ثنائي جمعه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. حينها بدا ساركوزي مضطرباً ومرتبكاً وفاقداً للتوازن، لدرجة اعتقدت معها وسائل الإعلام أنه كان ثملاً. لكن حقيقة ما دار بين الرئيسين ظهرت منذ أشهر قليلة، لتدحض تلك الإشاعات. فخلال اللقاء، انتقد ساركوزي بشدة السياسة الخارجية والداخلية الروسية، فما كان من بوتين إلا أن هدده بأن يسحقه إذا استمر بهذا المنطق وهذا الأسلوب معه، ما جعل ساركوزي يظهر بتلك الحالة تحت وقع الصدمة الشديدة من رد بوتين العنيف وغير المتوقع.

 


بعد عشر سنوات على هذه الحادثة، عقد إيمانويل ماكرون قمة مع بوتين نفسه مطلع الأسبوع الجاري، والتي ترقبتها وسائل الإعلام الفرنسية باهتمام بالغ لكونها تتويجاً لأسبوعٍ دبلوماسي حافل للرئيس الفرنسي الجديد، بدأه في بروكسل، حيث شارك في قمة حلف شمال الأطلسي "ناتو"، واستكمله بقمّة مجموعة السبع الصناعية في سيسيليا، وخلالهما كان لقاؤه الأول مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وبعدما اعتبرت وسائل الإعلام المحلية أن ماكرون نجح في امتحان ترامب، اتجهت الأنظار إلى لقائه مع بوتين، لمعرفة إن كانت العلاقات بين موسكو وباريس ستتجه نحو مزيد من التأزم أو الانفراج، بعدما شهدت العلاقات بين البلدين توتراً في عهد فرنسوا هولاند على خلفية الملفين الأوكراني والسوري.

وبدا واضحاً في الماراثون الدبلوماسي لماكرون، أنه مثلما استطاع أن يخلق انطباعاً مختلفاً لدى الفرنسيين من ناحية سياساته الداخلية، أراد أن ينسحب الأمر على سياساته الخارجية، فنجح في أن يترك انطباعاً لدى الرأي العام الفرنسي أنه ليس هاوياً دبلوماسياً ولا يخشى مواجهة الكبار في هذا العالم، فمصالح فرنسا وموقعها في الساحة الدولية ليست عرضةً للتفريط ولا المساومة في عهده، بعدما ظهر في موقع هجومي لا دفاعي، فتمكن بذلك من إحراز نقاط معنوية، بعكس ساركوزي الذي اتضح مؤخراً رسوبه في امتحان بوتين قبل عشر سنوات.

والحال أن ماكرون نجح في امتحان بوتين في نظر الإعلام الفرنسي، لكونه بدا ندّاً له من خلال ما صرح به في المؤتمر الصحافي المشترك، عندما وجّه انتقادات لاذعة للسياسة الروسية من خلال وصفه وكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك" وتلفزيون "روسيا اليوم" بأنهما لا يعملان كوسائل إعلام بل كمجموعات ضغط عبر نشر معلومات كاذبة، وذلك في معرض رده على سؤال حول منع هاتين الوسيلتين من دخول مقر حملته الانتخابية.


ورغم نقاط التباين العديدة بين موسكو وباريس، والتي تطرق إليها ماكرون نفسه، كموضوع رد فرنسا على أي استخدام للأسلحة الكيماوية في سوريا، إلا أن الإعلام الفرنسي توقف عند انتقادات ماكرون لوسائل الإعلام الروسية بشكل خاص، لأنها انتقادات بنكهة مختلفة، إذ لا تعني سياسة موسكو الخارجية تجاه دول أخرى، بل تحمل بُعداً ثنائياً مباشراً وتنتقد طبيعة التأثير الروسي في الحياة السياسية الفرنسية.

ليس سراً أن بوتين كان متحمساً لفوز مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، على حساب ماكرون في الانتخابات الماضية، خصوصاً أنه يتقاسم معها وجهة نظرٍ واحدة من ناحية ضرورة إضعاف الاتحاد الأوروبي، على عكس ماكرون الذي يسعى إلى تمتين وتعميق الشراكة الأوروبية. كما أن تصويب السهام على المؤسستين الإعلاميتين الممولتين من الكرملين، واللتين تعكسان وجهة النظر الرسمية لموسكو، هو أيضاً انتقاد لسياسة موسكو الخارجية. وفي ضوء ذلك، اهتمت وسائل الإعلام الفرنسية بتحليل لغة جسد بوتين، لحظة إدلاء ماكرون بتصريحه، فلفتت إلى أن لم يبدِ أي ردّ فعل.

لكن الحدة والصرامة التي قابل بها ماكرون، نظيره الروسي، لا تعني بالضرورة أن العلاقات الثنائية المتوترة بين البلدين ستراوح مكانها، بحسب وسائل الإعلام، وذلك استناداً إلى تحليل هذه الزيارة من ناحية الشكل إضافة إلى أبعادها الرمزية. فزيارة بوتين أتت بناء لدعوة من ماكرون، من أجل افتتاح معرض في قصر فرساي يخلّد الزيارة التاريخية للقيصر بطرس الأكبر إلى فرنسا العام 1717، والتي مهدت لإرساء علاقات دبلوماسية وصداقة متينة بين البلدين. فأن تتم دعوة بوتين لهذا الغرض، من قبل رئيس فرنسي منتخب حديثاً، فهي تدل على اليد الممدودة لهذا الأخير تجاه ضيفه، والرغبة في أن تكون العلاقات الثنائية على قواعد الصداقة والالتقاء وليس الاختلاف.

إلى ذلك، توقف الإعلام بشكل خاص عند أبعاد أن تعقد القمة الثنائية في فرساي، وليس في الإليزيه. وهو اختيار لم يكن بريئاً تماماً، لأن قصر فرساي يؤرخ لعظمة فرنسا، ما يعني أن ماكرون أراد توجيه رسالة مفادها أن فرنسا لاعب فاعلٌ في الساحة الدولية لا يمكن تجاوزه.

إذاً، اليد الممدودة من ناحية، والحزم والصرامة من ناحية أخرى. إشارتان التقطتهما الصحف ووسائل الإعلام لاستشراف معالم السياسة الخارجية لماكرون، والتي ستتسم بالبراغماتية من دون الذوبان في كنف روسيا. فتصريحات ماكرون تعني أنه يدرك ملياً أن روسيا لا تفهم إلا لغة القوة وهو يريد أن يضع بلاده في السويّة نفسها مع موسكو، حتى يكون الحوار معها على قاعدة متوازنة تسمح بالتطرق لجميع الملفات الخلافية.

وهنا كانت وسائل الإعلام حذرة في عدم المبالغة في تحليل الآفاق المستقبلية لدبلوماسية ماكرون، فذكّرت بأن الرئيس الفرنسي ما زال في طور ترتيب بيته الداخلي، وأن الحكومة الحالية هي حكومة مؤقتة، والمَعالم العملانية للسياسة الخارجية "الماكرونية" ستتضح تدريجياً بعد تشكيل حكومة جديدة تنبثق عن الانتخابات النيابية في وقت لاحق من الشهر الجاري.

في السياق، قدمت وسائل إعلام أخرى، تفسيرات مختلفة تماماً. فاعتبرت أنه من الممكن أن تكون "فرنسا ماكرون"، في حسابات بوتين، مدخلاً لإنهاء حالة الجفاء والتوتر مع الدول الغربية. وإذا ما صحت هذه الفرضية، فإن ماكرون كان بالضرورة على علم بنيّة بوتين تلك، ما حفّزه على استغلال الموقف من أجل تسجيل بعض النقاط لصالحه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها