الجمعة 2017/05/26

آخر تحديث: 16:06 (بيروت)

الروح (الشريرة) الرياضية

الجمعة 2017/05/26
الروح (الشريرة) الرياضية
increase حجم الخط decrease
إصرار على العنصرية، هو العنوان الذي تنطلق منه احتفالات جمهور "الرياضي" خلال احتفالاتهم بفوز فريقهم ببطولة كرة السلة المحلية، برفعهم أعلاماً تركية في الشوارع حسبما يظهر مقطع فيديو انتشر بشدة عبر مواقع التواصل خلال اليومين الماضيين، نكاية بالأرمن مجدداً، بعد جدل حاد أحدثه مقطع أخر قبل أيام، يوجه فيه حشد من جمهور "الرياضي" كمية من الهتافات العنصرية ضد الأرمن وفريقهم "الهومنتمن".

وفي المقطعين، يُظهر هذا الجمهور، كما الجماهير الباقية، مدى الروح الرياضية التي تتمتع بها الملاعب عند كل مباراة محتدمة في المنافسة، أو حتى بعد انتهائها. ولا يكتفي الجمهور هنا بكيل شتّى أنواع الشتائم للجمهور الخصم فحسب بل يتعدى ذلك إلى إبراز مستوى الخطاب العنصري، لكون الفريق الآخر "الهومنتمن" محسوباً على الطائفة الأرمنية في لبنان.


المشهد وإن كان متكرراً وليس وليد اليوم ولا محصوراً بلعبة كرة السلّة، ينبغي أن نعلم بأنه في شتى أنحاء العالم لا تخلو المباريات الرياضية من الشغب والعنف، لكن ما يحدث هنا له مسوّغات في السياسة وليس في الرياضة. كما لم يعد هذا المشهد العام للرياضات الجماهيرية مفاجئاً، كما أنه لم يعد معتاداً طالما أننا نلتفت إليه ونكتب عنه وننوه بكل هذا الانحطاط.

والحال أن هذا الخطاب العنصري بات مدعاة للشفقة على مطلقيه، خاصة أنه لا يعبّر عن جمهور معيّن بقدر ما يعبر عن إشكالية ضاربة في العلاقة القائمة بين السياسة وكل مستويات الاجتماع اللبناني بما فيها مستوى الرياضة. وعليه، لا يبدو الخطاب عند جماهير الرياضة منفصلاً عن خطاب المنظومة السياسية، فإذا أردنا أن نعود بالذاكرة قليلاً لأبرز التقاطعات التي حصلت بين السياسة والرياضة، يمكن أن نستعرض حجم التدخلات التي قام بها السياسيون من أجل تطويع الرياضات الجماهيرية، والتي تجتذب عدداً لا بأس به من الناس، من أجل تمرير الرسائل السياسية وشد عصب الشوارع في مدينة لا تعرف سوى الانقسام والتحزّب والتمترس.



لا يمكن لأي مراقب أن يعزل المشهد الرياضي في لبنان عن المشهد السياسي السائد. ففي الوقت الذي حاول فيه المسيحيون التعويض عن خسائرهم في السياسة تحت حكم الوصاية السورية عبر إبراز نادي "الحكمة" على شكل المخلّص، لعب بيت الحريري الدور نفسه في شد عصب سنّة بيروت عبر نادي "الرياضي". لقد صُرفت موازنات مالية هائلة على الأندية الرياضية التي تتمتع بشعبية عالية من أجل ربط هذا القطاع بالسياسة وبمآربها. هذا ما يمتد على لعبة كرة القدم أيضاً، حيث  يبدو لنا فريق "العهد" نموذجاً. لقد صٌرفت الموازنات في سبيل أن تصبح الرياضة إحدى أفضل تجليات الخطاب السياسي.

في ضوء ذلك، يخال المشاهد مدرجات الملاعب الرياضية، في لعبة كرة السلّة أو لعبة كرة القدم، ساحات حرب. هذه الساحات المشتعلة بالخطاب السياسي وبالخطاب العنصري وبكل أدوات التمييّز ضد "الآخر" غالباً ما تكون مضبوطة بسقف محدد تسهر عليه أدوات السلطة الأمنية. إن لعبة السقف المضبوط تتيح للجمهور التعبير عن هذا الخطاب الأقلّوي والخطابات العنصرية والطائفية. إن اللاعب الرئيس في هذا المضمار يريد المتاريس المتقابلة من دون أي احتكاك مباشر، يريدها أن تبقى على استعداد دائم من أجل معركة قد تبدأ في أي لحظة.

من الظلم، ربما، أن نصب غضبنا على جمهور ليس بريئاً بقدر ما أنه متورط في لعبة تُعدّ خارج الملاعب الرياضية، فعملية إنتاج الخطاب السياسي، كما إعادة إنتاجه، لا تقتصر على حقل السياسة فقط، والرياضة بهذا المعنى تصبح مضماراً آخر لإنتاج الخطابات القائمة على الفئوية والعنصرية وكل خطابات الكراهية. كما لا تكتفي الرياضة في مدينتنا بالشغب المبرر والحماس الزائد، إذ لا ينجم هذا الشغب والحماس عن عملية طبيعية تسود عالم الرياضات الجماهيرية التنافسية. وعليه فإن الخطاب العنصري الذي يطفو على سطح الألعاب الرياضية يتجذر في سيرورة سياسية تم إعدادها بعناية.

لن يتوقف الحماس والمناصرة، والشغب أحياناً، على مدرجات الملاعب الرياضية وسيبقى حالة "طبيعية" مرافقة لأي لعبة رياضية يسودها التنافس. لكن ما يمكن إيقافه هو الخطاب العنصري المتفشي بين مختلف الجماهير. هذا الخطاب الذي يتكئ على مفاهيم الكراهية والتمييز على أساس أقلوي وطائفي. إن عملية إيقاف هذا الخطاب لا تبدأ على مدرجات الملاعب بحرمان المشجعيين حضور المباراة ولا بتغريم الأندية مبالغ مادية، إنها تبدأ خارج الملاعب، في السياسة، في ملاعب المنظومة السياسية الحاكمة التي تبني المتاريس الاحترابية على حجم وطن.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب