السبت 2017/03/25

آخر تحديث: 14:47 (بيروت)

عن فيلم باسم يوسف الأميركي..

السبت 2017/03/25
عن فيلم باسم يوسف الأميركي..
increase حجم الخط decrease
كيف يمكن إختزال الثورة المصرية مع ما شهدته من عمليات مدّ وجزر عبر قصة رجل؟ هذا ما يحاول إنجازه الفيلم التسجيلي الجديد "دغدغة العمالقة" Tickling Giants‪)‬) والذي يروي قصة باسم يوسف (الجرّاح الذي قرّر أنّ يصبح إعلامياً مع انطلاق الثورة) والذي يعرض هذه الأيام في الصالات الأميركية. ويتابع الفيلم ظاهرة إنطلاق برنامج يوسف السياسي الساخر، "البرنامج"، وتحوله من حلقات يتمّ تصويرها في "غرفة الغسيل" في منزل يوسف لبثها عبر "يوتيوب"، إلى أحدّ أكبر وأنجح البرامج العربية وأكثرها شعبية. 

إطلاق الفيلم في أميركا الآن في ظلّ الجدال الحاد القائم بين الرئيس الجديد دونالد ترامب، والإعلام الأميركي، له دلالات كبيرة.   

وينقل الفيلم العلاقة الخاصة بين جون ستيوارت، ويوسف، الذي يظهر في إحدى حلقات البرنامج الأميركي. مخرجة الفيلم، سارة تاكسلر، هي أحد منتجي برنامج ستيوارت، وقد التقت بيوسف أثناء إحدى زيارته لنيويورك للإطلاع عن قرب على ماكينة إنتاج البرنامج الأميركي.  
تقول تاكسلر أنّ متابعتها للأحداث التي رافقت صعود "البرنامج" وهبوطه السريع، بالإضافة إلى مراقبتها للضغوطات المفروضة على فريق العمل المصري وتعاطيهم مع التحديات بشجاعة ملفتة، أمور جعلتها تتيقظّ إلى "نعمة" العمل في أميركا، في وقت يحسّ فيه الأميركيون أنّ حرية الصحافة في بلادهم على المحكّ. لطالما كان الإعلام في أميركا وخاصةً البرامج الساخرة، أمراً أساسياً في تحدي السلطة القائمة، وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى ربما متنفساً هاماً للتعبير عن السخط من رئيس يقول الكثير من الأميركيين أنّه لا يمثلهم. 

لعلّ المقاربة بين البرنامجين الأميركي والمصري، هي في قلب "التراجيدية" الكامنة في الفيلم. رغم فرادة برنامج يوسف وارتباطه العضوي بـ"الستيل" المصري، لا يخفى على المشاهد أنّ القالب والتركيبة هي أميركية بحتة ومرتبطة بتقليد أو تراث إعلامي متجذّر هناك ونابع من قدسية مفهوم حرية التعبير. 

والنقطة الأساسية التي يمكن استخلاصها من الفيلم هي أنّ فشل "البرنامج" يرمز نوعاً ما إلى فشل نقل النموذج الديموقراطي الغربي، إلى المجتمع المصري الذي عهد لفترات طويلة فكرة قدسية الرئيس كزعيم وأب روحي للعامة، رغم الثورة التي قلبت (لفترة وجيزة فقط) تلك العلاقة بين الشعب والسلطة. 


يبدأ الفيلم بمشاهد أرشيفية للتحركات الشعبية والتظاهرات في ميدان التحرير العام 2011، وعنف السلطة المواجه لها، لينتقل إلى لقطات ليوسف وهو يجري مقابلات عفوية مع الناس تظهر فيها قدرته الإستثنائية على إنتاج "النكتة"، حتى في اللحظات الدرامية والحرجة. 
ويقول يوسف، الذي يشكل تعليقه الصوتي العمود الفقري للفيلم، إنّ الهوّة الكبيرة التي شهدها بين ما يحدث في الشارع وما تنقله وسائل الإعلام "دفعته إلى ترك غرف العمليات لإنتاج حلقاته الساخرة والتي تتحدث بلغة الناس من غير تنميق". 

الإنتشار الواسع غير المسبوق لتلك الحلقات أقنع قناة "سي بي سي" المصرية بإنتاج "البرنامج" على نطاق ضخم مع فريق كتابة وبحث كبير يتابع بشكل مكثّف الأحداث السياسية وتغطيتها الإعلامية لصياغة مادة ساخرة مضحكة تنجح بمساءلة الآلة الحاكمة وبأسلوب جريء لم يشهده العالم العربي من قبل. وقد استفاد يوسف من نافذة الإنفتاح والحريات الذي عرفته مصر بعد الثورة (لفترة تبيّن أنّها قصيرة) لمقاربة الحديث حول السياسية من منظار مختلف تماماً عمّا عهدته الوسائل الإعلامية العربية. 

ويحاول الفيلم المقاربة بين الأحداث السياسية في مصر منذ 2011 وقصة "البرنامج" نفسه، فينتقل بين الأحداث العامة والتظاهرات من جهة، ومشاهد ليوسف مع عائلته وابنته الصغيرة وفريق عمله من جهة أخرى. ويرصد الفيلم تدريجيّاً انعكاس التقلّبات السياسية في مصر على مشاعر ونفسيات الأفراد العاملين في "البرنامج" والمحيطين بيوسف. 

ويركّز على صعود نجم "البرنامج" في فترة حكم الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، فينجح الكوميديان الصاعد في نقل حالة الصخط الشعبي من حكم الإخوان المسلمين بسبب تدخلاتهم في تفاصيل الحياة اليومية للمصريين، كما يقول يوسف في الفيلم. ويسخر "البرنامج" من الخطاب الديني المتطرّف والتكفيري لإعلام الإخوان، والتباعد بين خطاب مرسي المنمّق وحقيقة المعاناة الشعبية اليومية في ظلّ وضع إقتصادي صعب. 

ورغم محاولات إسكاته، خصوصاً عندما يسخر من زيّ مرسي أثناء استلامه لدكتوراه فخرية في باكستان، ينجح يوسف في الحصول على دعم جماهيري كبير في مناخ كان متعطّشاً حينها لحرية التعبير. 

ولكن مع انقلاب الجيش على حكم الإخوان، ووصول المشير عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، تظهر بداية إنهيار "البرنامج". هذا التبدلّ (أو العودة إلى المرحلة السابقة من الحكم العسكري) والذي رافقه تبدّل في المناخ الشعبي في البلاد، شكّل التحدّي الأكبر بالنسبة ليوسف. ومن خلال حوار حادّ بين يوسف وأحدّ الكتّاب العاملين في البرنامج، يطرح الفيلم تساؤلآً أساسياً في ظلّ الوضع الجديد: هل يجب المتابعة باللغّة نفسها أم مراعاة اللحظة التارخية المتقلّبة؟ ولعلّ هذا المشهد يظهر بوضوح الأزمة الداخلية التي واجهها يوسف أمام خيار المتابعة في مفهومه لحرية التعبير أو الانصياع لسلطة تعمل على إعادة البلاد إلى الوراء من خلال كبتٍ للحريات الإعلامية والسياسية. وينقل الفيلم التناقضات بين حالة الحماس الثوري والشعور التدريجي بالإحباط والإحساس بالقمع، من خلال مَشاهد ترصد وجوه وأحاديث وقلق فريق عمل "البرنامج" قبل بثّ الحلقات خلال تلك الفترة الحساسة. 

ملفتة في الفيلم مشاهد الرسوم الكاريكاتورية والتي تحاول تقريب فكرة "البرنامج" ورمزية مواجهة يوسف للسلطة. إحدى تلك الرسوم في الفيلم تُظهر رسماً ليوسف وهو يحمل ريشة يدغدغ بها قدماً عملاقة تستعدّ للدوس عليه.
مؤثرة جداً أيضاً مشاهد مواجهة يوسف، بالنكتة أحياناً، وبنظرات قلقة أحياناً أخرى، للضغوط التي تهلّ عليه شعبياً وسياسياً وإعلامياً. رغم إصراره على المتابعة يقرّر أخيراً إيقاف "البرنامج" واللجوء مع عائلته إلى الولايات المتحدة تحت وقع التهديدات. وهو يردّد في محطات عديدة أنّه قرّر التراجع بسبب شعوره أنّ عائلته والعاملين معه في خطر.

والشعرة التي قصمت ظهر البعير هي صدور حكم ضده في دعوى قدمتها قناة "سي بي سي" التي زعمت أنّ يوسف كان ينتج مواد لا يمكن للقناة بثها. ويقول في الفيلم أنّه بعد الحكم الذي فرض عليه دفع مبلغ كبير من المال لا يمكنه دفعه، استقل سيارة أجرة وتوجه مباشرة إلى المطار خوفاً من أن يسجن. 

في حديثها عن يوسف والفيلم، تقول المخرجة تاكسلر، أنّ يوسف لم يودّ أن يبث "البرنامج" عبر "يوتيوب" من خارج مصر لأنّه لا يريد أنّ يعلّق على السياسة المصرية وهو في مأمن في المنفى. وهو اليوم يحاضر حول حرية التعبير في أميركا، وقد نشر كتاباً بالإنجليزية بأسلوبه اللّاذع المضحك عن الثورة في مصر وعنوانه "شرح الثورة للأغبياء" ‪(Revolution for dummies)‬، وهو عنوان مستوحى من سلسلة كتب أميركية، تشرح مفاهيم (سياسية واجتماعية وعلمية) صعبة، بأسلوب مبسط وقد يكون مضحكاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها