الأحد 2016/05/01

آخر تحديث: 18:21 (بيروت)

أنا أيضاً بيروتي

الأحد 2016/05/01
أنا أيضاً بيروتي
بيروت فكرة وليست عقاراً إدارياً (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
أعرّف نفسي، إذا ما سئلت، بأنني "من بيروت". هذا سجال ذاتي أنهيته منذ وقت طويل. الانتماء إلى المدينة في جزء كبير منه قرار اتخذته بوعي سياسي اجتماعي أظنه تاما، وبعد اقتناع بذائقة ثقافية وباسلوب حياة أريده لنفسي.

حين أقرر أنني من بيروت، فلأنني أرتاح، مثلاً، إلى الهندسة المدينية. أرتاح إلى المباني العالية والمتاجر والأرصفة والمقاهي والملاهي الليلة والجامعات والمكتبات ودور السينما والمسارح والضجة وازدحام السير، ودفق وجوه الغرباء الذين قد لا ألتقيهم إلا لمرة واحدة عابرة فيحياتي، وأرى أن في هذا غنى للنفس.

أفضل تبدلات المدينة على هناء الريف، مطلق ريف هادئ، ساكن إلى الوجوه ذاتها، وإلى النقاء في الهواء والعرق والطائفة والهوية.

لا أحكم على الريف. أقول فقط إنني أفضل ألا أكون جزءاً منه. مسألة مزاج. هناك من لا يحب الغرباء، بأشكالهم وألوانهم كافة، وتكون حياته من دونهم أحسن حين لا يضطر إلى زعزعة استقراره بالاحتكاك بالمختلفين. ولا يضطر إلى مقارنة أفكاره الثابتة حول نفسه ومحيطه ومجتمعه ووجوده، بدفق تيارات متقاطعة من احتمالات لامتناهية من الأفكار والعادات وأساليب الحياة. هذا الدفق الذي يشكل المدن في نهاية المطاف.

لا أحكم على الريف. أراه كما هو، ريفاً، لا يصير مدينة من دون غرباء. والمدن يصنعها غرباؤها القلقون. هؤلاء الهاربون من القرى، ومن بلاد قريبة وبعيدة، باحثين عن ملامح جديدة لحيواتهم. وهم، بينما يجربون وينجحون ويفشلون ويحبطون يصنعون ملامح مكانهم المتغيرة دوماً بتغيرهم، وبعدم ثباتهم، وبتغذيتهم المتصلة للقلق الكامن في دواخلهم، وفي اصرارهم على البقاء أفراداً، وعدم الانتماء إلى جماعة.هم أفراد وغرباء وقلقون، هؤلاء الذين يجعلون المدن مدنا. عمال وطلاب وموظفون وفنانون وكتاب ومهندسون وأكاديميون ومهاجرون من كل القرى ومن الجنسيات. حالمون أو مضطرون، يجدون ملاذهم في مدينة مثل بيروت، وتجد فيهم ملاذها، لتبقى ملونة ومنفتحة ومتنوعة. لتبقى مدينة. وإذا فقد كل هؤلاء حاجتهم إليها، أو اهتمامهم بها، وغادروها، عادت قرية لا حاجة فيها للرصيف وسيارة السرفيس والجامعة. لا حاجة فيها للفكرة. وبيروت، في الأصل، فكرة.

ولأنها فكرة، وليست عقاراً إدارياً، فهي متحركة. تتسع حيناً لتشمل ضواحيها الجنوبية والشرقية، من فرن الشباك إلى الشياح إلى برج حمود والنبعة والمخيمات. وتضيق أحياناً لتصير أصغر من حي لا يطيق قاطنوه تأجير غرفة فيه لـ"غريب" ما، لبنانياً كان أم سورياً أو سودانياً. تتسع لتكون وفية لتاريخها الحقيقي كمساحة مفتوحة على التجريب، وتضيق لتظن أن بإمكانها العودة إلى زمن سحيق كانت فيه بلدة مسورة كل ما خارجها صبار وثعالب.

بين حدين تقع فكرة المدينة. وهي إذ تنسحق الآن، فليس بسبب غربائها، بل لأن إلقاء اللوم على هؤلاء هو آخر ما يستطيعه العاجز عن فهم كل الأسباب الموجبة للانسحاق. عجز يسطح المعنى ويركن إلى أن الآخرين هم الجحيم. التمييز والعنصرية صفتان لبنانيتان، لكن ليس نحن من اكتشفهما. نحن فقط ننبش نفايات أمراض بشرية مزمنة ومعروفة ومستدامة. والشعوب التي تريد أن تتحضر، تبحث عن علاج لهذه الأمراض، وليس النفخ فيها والرقص حولها.

وبيروت فكرة مأزومة لا شك، لكن القبض عليها، تصنيفها في خانة، إعلانها ملكا لمن اسمه مسجل في دوائر نفوسها حصراً، أمر يقع لا في خانة المستحيل فحسب، بل في خانة التفاهة.

لهذا، ربما، يستفزني تعبير مثل "بيروت للبيارتة"، لغبائه. فهو يحمل المسجلين في دوائر نفوس المدينة ما لا طاقة لهم على حمله. من قال إنهم يريدونها لأنفسهم فحسب، ومن قال إنها ستكون على ما هي عليه إذا كانوا وحدهم مالكيها؟ ماذا يبقى من بيروت إذا شعر أنه منفي فيها كل من ليس في دوائر نفوسها؟ ماذا يبقى منها إذا أحس هؤلاء أن انتماءهم معرّض دوما للمساءلة والمحاسبة والاتهام؟

دائرة النفوس، في بلد قانونه غير أخلاقي وغير عملي، لا تحدد الانتماء. تماما كما لا تحدد الجنسية انتماء أي لبناني لم ينل حظوتها لأنه لأب غير لبناني، أو لأن القانون يرى أن الجنسية هبة وليست حقاً يُكتسب وفق شروط، أقلها عدالة أن يكون مولوداً على هذه الأرض أو عاش وعمل فيها ما يكفي لأن يختارها جنسيته، وتختاره مواطناً فيها.

وبينما الخطأ يقع في القانون، وليس في الناس، يظل هناك من يلوذ بفوقيته الوهمية في سبيل تحقيق شعبويته. يقسّم المدينة بين نحن الأصليين، وهم الغرباء. نحن المتشابهين، وهم الملونين. نحن أبناء بيروت أيام زمان، وهم الوافدين الذين غيروا كل شيء.  تعبير يشبه استغاثة القروي الأخيرة قبل غرقه في مدينة يفترض أنها كالنهر، ليست نفسها في لحظتين. وهو مستفز لهذا السبب، لخلوه من المعنى، ولأن قدر المدن أن يكون منها، كل من قرر أنه منها، بغض النظر عن دوائر النفوس.

بيروت للبيارتة. طيب. أنا أيضاً بيروتي. كذلك كل من يقرر أنه بيروتي. من يريد نفي هذا الانتماء عني، فليجترح معجزة تمنعني من أن أقول "أنا من بيروت"، حين أسأل من أين. فليحلقني مثلاً، حاملاً سجلات النفوس، باحثاً عن اسمي فيها كلما سُئلت عن انتمائي، ليعلن أنني لست بيروتياً. سأظل أقول إنني من بيروت. بعناد واصرار، وبصدق طبعاً، وبالنكاية فيه وبسجلات النفوس: أنا أيضاً بيروتي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها