السبت 2016/02/20

آخر تحديث: 14:13 (بيروت)

رخام أبيض يموج كصفحة ماء

السبت 2016/02/20
رخام أبيض يموج كصفحة ماء
(اللوحة لإدوارد هوبر)
increase حجم الخط decrease
(إلى ماجدة)

سأقول للطبيبة إنني أقلعت خمس سنوات عن التدخين. وإنني كنت قبل الإقلاع مدخناً شرهاً. "أكثر من ستين سيجارة في اليوم". سأقول لها أيضاً إنني عدت إلى هذه العادة لكن ليس تماماً. وإنني أحيانا لا أدخن ليوم أو يومين، ثم أدخن من جديد. سأقول إنني عدت لأنني أشعر بالسأم، وأن بيروت التي زرتها مراراً العام الفائت مدينة مغوية. ولن أطلعها على سري الحميم بأنني أشعر بحزن مقيم عميقاً فيّ على أخي الذي قتله التدخين في نهاية المطاف.

***

لن أخبرها أيضاً إنني أحيانا أحس بألم في الطرف الأيمن من رئتي اليمنى، فأخاف من كتلة صغيرة بحجم طابة غولف، تنمو ببطء كوردة سوداء.. وتمد ساقها في جسدي.. تكبر في داخلي وستختار يوماً ما لتبدأ بتقشيري عنها.

***

ليس لدي الكثير لأقوله للطبيبة الأميركية. عاملتني الحياة بشكل طيب حتى الآن. عبرت الأربعين بأسرة أحبها من دون أن أفج رأسي أو أصاب بشظية أو يبتر انفجار أحد أطرافي. آخذ كل صباح حبة أسبرين للقلب، وحبة أخرى من أوميغا ثري (زيت السمك)، للقلب أيضاً، وحبة من عشرين ميليغراما من الدواء المضاد للكوليسترول الذي لا أستطيع مهما حاولت حفظ اسمه.

أحب القهوة بالطبع، وأشربها مع الحليب البارد الكامل الدسم. أقف في فجر صقيعي وحدي، أشرب القهوة وأدخن. أنظر إلى سماء لا أتوقع منها جديداً. أنهي قهوتي وأرمي السيجارة وأدخل. أجلس أمام الكومبيوتر. تمر ثماني ساعات، أخرج خلالها بضع مرات لأدخن.

طبعا هناك أمور أخرى، لكنها لا تعني الطبيبة.
لن أخبرها، مثلاً، أنني أحياناً لا أجد ما أقوله. أحاول لكنني لا أجد شيئاً، فأصمت، علهم ينسون أنني موجود ولا يطالبوني بأن أحكي.

***

لو تعرف طبيبتي.
أنسى الأحلام ما أن أفيق من النوم، لكنني، حين أرى محمود، أكتب ما رأيت كي لا أنسى. أكتب على ورقة أو على التلفون.. عندي عشرات الأحلام والرسائل إليه. كلها تنقطع فجأة لارتخاء غريب في معصمي. أخاطبه إذ أكتب إليه كما عادة من يروي حلمه لأخيه. أقول له، مثلاً: وجهك كان قريباً هذه المرة، وكان وسيماً على عادته. وقبّلت خدك وصرت أبكي لأنني كنت مشتاقاً إليك. لكنني، وأنا أبكي في المنام، كنت أسأل نفسي عن سبب هذا الشوق. أنا المسافر، لكن كأنك، في الحلم، أنت الذي كنت بعيداً، وعدت. وأعرف أنك عدت مؤقتاً، وأنك ستغادر بسرعة. لا أعلم لماذا وصولك قليل، بطول لحظة. أفتح عينيّ الباكيتين وأكتب.. وجهك كان قريباً هذه المرة.

هل أخبرها أنني آخر مرة عانقتك كنا على رصيف المطار، وأنك كنت تحمل سيجارة، وطلبت منك أن ترى طبيباً، وأن تخفف التدخين؟ هل أومأت برأسك يومها؟

***

ماذا لو استمعت طوال الوقت إلى مايلز ديفيس؟
أغلق العالم على أذني وأصغي إلى هذا النواح البعيد. ماذا يحدث؟ لست خائفاً على قلبي كثيراً. قد يخذلني باكراً إذا كان قد ورث الضعف الجيني الذي يجري في دم أمي. وقد لا يفعل. لكنني أفكر بأنني لا أريد لصدري أن يشق يوماً، وللقفص أن يفتح ويغلق. لن أحتمل ألم صورتي ممدداً ومخدراً وعاجزاً إلى هذا الحد. لذلك، أتناول حبات دواء يومياً، وبآلية كنت أظن انني لن أستطيعها قط. وأمشي وأمارس الرياضة، ككل أربعيني، استيقظ فجأة على وهم خطر مفاجىء، وأكثر من الموسيقى، لا لكي أدفع المرض عني، بل لكي أخفف وطء الوقت الثقيل.

قد أطلب منهم أن يرفعوا صوت الموسيقى بينما يجرون لي العملية. سيعدوني لكنهم لن يفوا. هم يعرفون أنني لن أسمع شيئاً. سيعالجون الشرايين والأوردة وقد يبدلون بعضها. الصمام التاجي والأبهر. هذه الكلمات الفجة غير المفهومة. لن ينسوا اسفنجة في داخلي ولا مقصاً.. حين ينتهون سيعيدون قفصي الصدري إلى مكانه، ويقطبوني، وينفضون أيديهم. سيقولون ها قد عاد جديداً. سأقول إنهم ميكانيكيون وأنهم يحكون عن سيارة عتيقة. سيقولون إنهم لم يجدوا في قلبي أناساً أحبهم وذكريات وموسيقى. هو مجرد قلب آخر، كان ينبض كما هو مطلوب منه، لكنه كان مجهداً، وقد تحسن الآن، وسيخدمه خمس سنوات أخرى على الأقل إن حافظ على نفسه ولم يشرب الكحول ويدخن ومارس الرياضة بانتظام وابتعد عن الأكل غير الصحي.

سأقول أنهم سمعوني أهذي بلغة غريبة غير مفهومة. وسأكمل حياتي بندب عمودي يبدأ أسفل عنقي، وسأظل أراه ما حييت في المرآة.

لن أسألهم إذا كانوا وضعوا الموسيقى التي أردت لقلبي أن يسمعها حين يخرج إلى الهواء لأول مرة. سأتخيله كسمكة، يفتح فمه طلبا للماء ولا يجده. يرتجف مذعورا في أيديهم وهم يظنونه ينبض.

هل أطلب من أحدهم أن يسجل فيديو لي في العملية؟ هل أجرؤ على رؤية داخلي؟ هل يغريني فعلاً أن أرى قلبي؟

***

أظنني لن أقبل بعملية القلب المفتوح. سأبقي هذه السيارة كما هي ولن أعبث بمحتوياتها.. ليس بعدما حملتني طويلاً، سأخرب داخلها كي أستغلها أكثر. فلتركن بسلام حين تحب، من دون أن تعبث بها يد باردة لميكانيكي ماهر. يد لا ترتجف وهي تستمع لنواح مايلز ديفيس. تركن والموسيقى التي استمعت إليها كل حياتها تدور من مسجلها بلا توقف.

***

لكنني أعرف أنني ان احتجت يوماً للعملية، فسأقبل بها مضطراً، وبسبب المنطق المحفوظ للأشياء. كما أقبل معظم الوقت. سأتنازل، كما عادتي، وأقبل، لأن قلبي ضعيف ولأني لم أتعلم كيف أواجه. لأني لم أتعلم اتخاذ قرار جريء، بأن أقوم عن مقعدي الآن، وأغادر، ولا أعود إلى مكاني. أغادر من دون مقدمات. دفعة واحدة. كما في الأفلام التي تنتهي كذلك، ببطلها المسحوق يقف ويمشي، ونراه من الخلف، وحيداً في منتصف طريق ضيقة، ترافقه موسيقى تصويرية، ووجهه الذي لا نراه، يبتسم للحن يدندنه في ذهنه.

***

أظنني أقلد صديقتي سمر. أكتب مثلها في دوائر صغيرة وكبيرة. لكنني لست شاعراً مثلها. لا بأس. هذا نص شخصي تماماً. نص علاجي. علاج بالكتابة. لكني لست مريضاً. أنا على موعد عادي مع طبيبة صحة عامة بعد يومين، لإجراء فحوصات روتينية. فحص دم وضغط وغيرهما. هكذا تسمى. فحوصات روتينية.

روتين ليست كلمة عربية. لها وقع اسم امرأة في رواية مترجمة. ماذا لو كان الروتين هو هذا: كتابة وموسيقى من دون انقطاع؟ ثم ماذا؟

لا شيء. كأنني في غرفة في مستشفى لعلاج المصابين بالرهاب من العمليات الجراحية. ينبغي عليّ في آخر المطاف أن أواجه خوفي، وأن أجري عملية جراحية، حتى لو لم أكن بحاجة إليها. واحدة صغيرة، كالزائدة الدودية مثلاً.. أنا مستعد للتخلي عنها في أية لحظة. لكنها قد تكون مهمة، من يدري؟ الميكانيكي حين يعيد جمع محتويات المحرك، يرمي قطعاً يقول إنها ليست مهمة. ونحن نستحي من سؤاله: لماذا وضعها المصنعون في المحرك لو كانت بلا أهمية؟

لكن، قد تكون هناك قطع زائدة في داخلي، لا أحتاجها. وهناك، في المقابل، قطع أخرى أحتاج إليها كثيراً، وأعرف أنني قد أفقدها. حين مات أخي، شعرت بخواء هائل في صدري. خواء يمكنني أن أصفه بأن أكور كفيّ أمام بعضهما كأنني أحمل كرة، ثم أغرزهما بين رئتيّ، فتبتلع بعضا منهما ومن قلبي ومن حنجرتي. وتبقى هناك إلى الأبد. تقف كفقاعة فراغ يمتصني أحياناً إلى داخله، فأغرق في نوبة بكاء عميق. تمتلئ عيناي بوجه محمود يضحك، ويصعد البكاء ويختنق صوتي. كأن الهواء انقطع. ثم يعود صوتي تدريجياً ويتلاشى الاختناق ببطء.

أسمعني أقول: "معليه.. معليه".. كأنني أخفف على نفسي ألم الفقد الذي لا يحتمل. كأني أود لو أن الرخام الأبيض يرقّ فوقه إذ ألمسه، فيموج كصفحة الماء. كأني أخفف عن أخي موته.

***

أعلم أيضاً أني سأعيش ما تبقى لي، مع هذا الفراغ وهذا البكاء وهذا الموت الصلب الراسخ الذي لا رجعة عنه. وسأراه في الأحلام. وستبقى ظلال روحه تحوم فوقي، تمر بي وأمر بها.. تساعدني على حمل هذه الحياة.

***

هذا الكومبيوتر. هذا السأم الرفيع كأبر مغروزة في مسامات جلدي. هذا الصوت الرفيع المبتهج للسيدة التي تلقي علي التحية من بعيد. هذا السأم العظيم.

هكذا بدأت النص، لكني، بينما أكتب، وجدت أنه يصلح لخاتمة أكثر منه لمقدمة. الآن لا أدري ما إذا عاد صالحاً لشيء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها