الأحد 2015/08/23

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

من يُقنعُ أمي أنني لم أعُد طفلاً؟!

الأحد 2015/08/23
من يُقنعُ أمي أنني لم أعُد طفلاً؟!
دخّنتُ في عمرٍ لم يتجاوز الثلاثة عشر عاماً، ولم تقتنع (غيتي)
increase حجم الخط decrease
من يُقنعُ أمي أنني لم أعد طفلاً؟

لطالما حاولتُ إقناعها أنني لم أعد كذلك. دخّنتُ في عمرٍ لم يتجاوز الثلاثة عشر عاماً. هربتُ قفزاً عن سورِ المدرسة. أحببتُ أولَ فتاةٍ في الصفّ الأول، والثانية في الصفّ الثامن، وكذبتُ كثيراً مثلما يفعلُ الرجالُ عادةً، ثمّ قررتُ مثل أيّ «زعوري» أن أتركَ المدرسة وأنتقلَ للعمل في دمشق حينَ كان عمري سبعة عشر عاماً، ولم تقتنع!

خرجتُ في مظاهراتٍ منذُ نعومة أظفاري، كانَ قد بدأ ربيعُ دمشق، وتذكّر السوريون أنّ ثمّة مفردة جليلة تُدعى: الشارع!

«شمّعتُ الخيطَ» من مدرستي لأحضر فعاليات مهرجان «المدى الثقافي»، كانَ عليّ أن أعرف «نصر حامد أبو زيد»، هذا الذي يتحدثونَ طويلاً عنه! ثمّ كيفَ لا أحضرُ ندوة الدكتور عصام الزعيم؟! واشتريتُ حمّالة للمفاتيح عليها خريطة فلسطين. ومع ذلك لم تقتنع.

حُملتُ على الأكتافِ في مظاهراتِ دمشق مطلع العقد المنصرم مع الفلسطينيين، منتشياً كأنما العالمُ كلّهُ يسمعُ صراخي:

فخّخني واعمل معروف..  وشوف الدنيا تولّع شوف
ما في خوف مافي خوف..  الحجر صار كلاشنكوف

وبالمناسبة، لم يعتبرنا أحدهم حينذاك إرهابيين، حينذاكَ كنا وبصوتٍ واحدٍ نطلبُ أن نكونَ انتحاريين، ومع ذلك لم نكن إرهابيين، وأمي لم تقتنع طبعاً!

خرجتُ بعدها مع العروبيين واليساريين ومحاربي الإمبريالية:
قاوم يا شعب العراق .. أصمد أصمد يا عراق!

ناديتُ في سنواتِ يفاعتي تلك بشتى الشعارات المناصرة للمظلومين، ذلكَ أنني مثلُ أكثريةِ السوريين، كنتُ أنسى، أو أتناسى، أنني مظلومٌ أيضاً.

في سنواتِ دراستي الجامعية الأولى، زرتُ أغلبَ حاناتِ دمشق، شربتُ في "فريدي" و"الريّس" و"القصبجي" و"أبو جورج" ونادي صفّ الضباط والمحاربين القدماء ونادي الصحافيين و"اسكندرون". وراقبتُ مع كهولِ مقهى السياحة فتيات الليل الروسيات والمغربيات نازلاتٍ إلى أماسيهنّ من فندق إسبانيا عند التاسعة والنصف وخمس دقائق ليلاً!

لم تكن نيّتي حينذاك توثيق المدينة من خمّاراتها، لكنني كنتُ أريدُ الإثباتَ لنفسي بالدرجة الأولى، أنني كبرتُ أخيراً!

وفي الجيش لم أترك سوراً أو ساتراً ترابياً لم أقفز عنهُ فراراً من مأزق خدمة العلم! لماذا عليّ أن أخدمَ العلم؟! لماذا لا يخدمني هو؟! لم تكن تلك تساؤلاتي بالطبع، كان الموضوعُ ببساطةٍ لا يُطاق، وما لا يُطاق يجبُ ألّا يُعاش.

دخلتُ سجنَ تدمر وخرجتُ منهُ ولم تؤثّر الشهورُ الستة في تأديبي، بقيتُ لا أطيقُ الخدمة ، ولولا صدورُ «عفوٍ رئاسيّ» استفدتُ منهُ وأنهيتُ خدمتي آنذاك، لكنتُ الآن في عداد الشهداء أو المنشقين، ولا أعلمُ على وجه الدقّة إن كانَ هذا المصيرُ (فيما لو كانَ) يُعتبرُ رفضاً لعسفِ النظامِ، أم إثباتاً أنني كبرت!

حسناً، قولوا لأمي بعد كلّ هذا إنني كبرتُ أخيراً، صارَ يجبُ أن تقتنع!

سافرتُ وعشقتُ وكتبتُ الشعرَ وقرأتُ في أمسياتٍ مكتظة وأخرى هادئة ورأيتُ ثلاث قارّاتٍ وعدداً كبيراً من المدن، تكسّرت أسناني وصارَ فمي مليئاً بالفراغات. تساقطَ شعري وانتهجتُ نهجَ العائلةِ وصرتُ أصلعاً، ومؤخراً لمحتُ شيباً في شعرِ ذقني...

قولوا لها إنني كبرت، وصارَ لي أصدقاء إرهابيون، يخططونَ مع جهاتٍ مشبوهةٍ لتدميرِ بلدنا الحبيب. قولوا إنّ وقتاً طويلاً سوفَ أصرفُهُ إن عدتُ يوماً، فوقَ قبورِ أصدقائي.

على أمّهاتنا أن يُصدّقنَ ذلك...
لا لشيءٍ، بل لأنّنا بتنا عرضةً كلّ لحظةٍ للسكتات القلبية والدماغية. وسيعسرُ عليهنّ تصديقُ أنّ أطفالهنّ يصابونَ بأزماتٍ قلبية!

سيكونُ ذلكَ صعباً عليهنّ... صعباً جداً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها