الأحد 2015/07/12

آخر تحديث: 14:48 (بيروت)

"غداً نلتقي": فلسفة الإضاءة والألوان.. والمونولوجات الداخلية

الأحد 2015/07/12
"غداً نلتقي": فلسفة الإضاءة والألوان.. والمونولوجات الداخلية
كاريس بشار تذوب في أدائها "وردة"
increase حجم الخط decrease
في تجربته الإخراجية الجديدة في "غداً نلتقي"، يقدم الممثل والمخرج رامي حنا عصارة عمره الفني الطويل، فيرفع من مستوى العمل من مجرد دراما تلفزيونية بسيطة إلى مستوى السينما المحترفة، بخيارات ذكية وقدرة عالية على استخدام مختلف أدواته على الشاشة، بدءاً بالموسيقى والإضاءة والمونتاج، وليس انتهاء بالممثلين الذين يوظفهم في أدوار مناسبة بشكل غير مسبوق.

تلعب الإضاءة والألوان دوراً فلسفياً في العمل. هناك كمية كبيرة من العتمة تغمر حياة اللاجئين السوريين في بيروت. واللون الرمادي المحايد البارد يعكس الجوانب القاسية لمأساة اللجوء السوري في لبنان القريب والغريب في آن واحد. كما تأتي الإضاءة غالباً من مصدر واحد بعيد في كل المشاهد، كأنها الأمل المنتظر بنهاية سعيدة للمأساة الإنسانية، وتتغير تلك الإضاءة نحو الإشراق في مشاهد باريس مع المحافظة على الطابع الرمادي في العموم.

الموسيقى بدورها محورية، وليست مجرد رتوش جمالية.. فنشهدها ترتفع وتنخفض من دون إنذار وبتواتر مختلف في كل مرة، مع تعدد في أنواع الموسيقى المستخدمة حسب المشهد، وإن كانت تذكر بموسيقى الأفلام الأوروبية، والفرنسية تحديداً، التي يستمد منها العمل روحه العامة. أما أبرز ما تقوم به الموسيقى، فهي التمهيد للمشاهد المفاجئة والربط بين المشاهد المتتالية التي لا يجمعها منطقياً سوى الجوهر النفسي الذي تمثله الموسيقى، وتنقله بسلاسة بلا مبالغات بصرية أو تنظير على مستوى الحوار.

تمتزج الرمزية بالسوداوية والكوميديا في "غداً نلتقي" بشكل مدهش. فالكوميديا تبدو قريبة من كوميديا وودي ألن في أفلامه التي تدور أحداثها في مدن أوروبية (Midnight in Paris، Vicky Cristina Barcelona، ..)، فيما تذكر السوداوية والرمزية القاتمة بأفلام الأخوين كوين الأميركية (No country for old men). من هنا يستمد العمل فلسفته البصرية عموماً، وهي خصائص لطالما افتقدتها الدراما العربية، حتى العام الماضي مع مسلسل "قلم حمرة" الذي شكل قفزة نوعية في هذا الإطار.

تعيد مشاهد العمل المشاهد بالذاكرة الى جودة العمل في "قلم حمرة" الذي كانت المونولوجات الداخلية أساسه الأول. لكن لحظات الصمت الطويلة التي تعيشها شخصيات "غداً نلتقي"، خلال أعمالها اليومية من غسيل وتنظيف وطبخ وشرب للشاي ومشي في الشوارع، تشكل الفارق الأبرز، والتي تم استبدالها بالأداء الجسدي لبساطة الشخصيات وابتعادها عن التنظير. كما أن الشخصيات، ليست نخبوية أو مثقفة، وتكتشف عوالم جديدة بعد السفر. وعليه تشهد كل شخصية اضطرابها النفسي الخاص (أبو عبدو يميل إلى داعش وزوجته تطلب الطلاق وتبحث عن الحرية، ..).

يستند العمل إلى الشخصيات بالدرجة الأولى، وليس الى الحوار أو الأحداث والقصة. جاذبية الشخصيات في حياتها اليومية البسيطة، تجعل المسلسل قريباً من الجمهور، وهي السر الأول في نجاحه.. ولهذا، بدا العمل في حلقاته الأولى كئيباً ومملاً، قبل أن يتصاعد بشكل تدريجي مع تتالي الأيام ومرور الوقت اللازم لوقوع المشاهد في غرام الشخصيات التي يتابعها والتورط معها عاطفياً، وهو ما يبدع في خلقه كاتبا العمل رامي حنا والممثل إياد أبو الشامات في أولى تجاربهما الكتابية الواعدة.

الخصائص السابقة بحاجة لممثلين من طراز رفيع لنقلها بصرياً دون الوقوع في السطحية، خصوصاً وأن العناصر الجمالية مفقودة في أماكن التصوير (معظمها داخلي)، وهو ما ينجح فيه نجوم العمل باقتدار دون استثناء. فهم يخرجون من صورهم النمطية المعتادة نحو شخصيات غير مألوفة درامياً في المنطقة العربية، وتحديداً من ناحية الأداء الجسدي بدرجة توازي البناء النفسي الداخلي.

فشخصية وردة التي تجسدها بإبداع منقطع النظير النجمة كاريس بشار، تذكّر بكل شيء جميل في الحياة بكمية التناقضات التي تمتلكها. فهي الطيبة والبريئة كطفلة تغني شارة كارتون "جزيرة الكنز"، وهي العذراء المؤمنة بالحب في زمن الحرب والموت المجاني واللجوء، والتي لا تكره بيروت بقدر ما تريد العودة إلى بيتها المدمر في كفر بطنا بريف دمشق. أما عملها اليومي بجوار الموت في غسل الجثث، فيشكل التناقض الأبرز مع تفاصيل يومها الصاخب بمعاني الحياة المختلفة. هنا، هي المحطمة والحزينة وخاصة في ردود أفعالها، ورغم أنها تكره فيروز الكئيبة، إلا أن نغمة هاتفها ترن في كل حلقة "احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي".

تذوب بشار بأدائها في وردة، وليس العكس، مقدمة أفضل أداء دون منازع هذا الموسم. فنراها تلعب على التفاصيل الجسدية كمشيتها المتثاقلة بكتفين هزيلتين منحنيتين من ثقل الهم والقهر الإنساني الذي تحياه، كذلك في الرقص عند الفرح لأتفه الأسباب، وفي التقبيل والاستحمام والضحك والمداعبات الجنسية والعناق والبكاء، فتتحرر بسلاسة من قيود الشخصية المكتوبة على ورق متحولة إلى إنسانة كاملة من لحم ودم.

القدير عبد الهادي الصباغ، ليس مجرد اسماً عادياً في الدراما السورية، بل هو المميز في كافة مراحل مسيرته الفنية لكنه يعيد اكتشاف ذاته من جديد بعد فترة غياب طويلة، مقدماً شخصية خرافية بكل ما تحمله الكلمة من معنى (أبو عبدو)، ويسري الكلام ذاته على الفنان تيسير إدريس المميز في شخصية المناضل السابق "أبو ليلى" الذي لا يشكل حضوره وجوداً عبثياً على الأحداث بكل السكر والضياع والتشتت الذي يعيشه، بل هو حضور عمديّ ومقصود يمثل بقسوة المستقبل المظلم لشخصيات العمل ولأزمة اللجوء السوري في مقاربة شديدة الحساسية مع اللجوء الفلسطيني.

في السياق ذاته، لا بد من الإشادة ببقية نجوم المسلسل، ضحى الدبس وناظلي الرواس وعبد المنعم عمايري ومكسيم خليل وفوزي بشارة ومحمد حداقي، وبالأخص القديرة فاتن شاهين التي تجسد بأداء هوليوودي شخصية اللاجئة المسنة المشلولة التي لا تتكلم ولا نعرف إن كانت تسمع أو ترى، فنراها كتمثال من الشمع أو كدمية بلاستيكية رغم تركيز الكاميرا عليها لفترات طويلة كرمزية متقنة للعجز الذي يشل حياة السوريين اليوم في ظل واقع الحرب اليومي الممتد للعام الخامس على التوالي.

لا وجود للسياسة إلا في أحاديث الشقيقين المتعاكسين جابر ومحمود. أما العمل فيدور كله حول قصص الحب والتفاصيل اليومية والأحاديث البسيطة، وينحاز المسلسل ببراعة الى الهم الإنساني الداخلي دون الوقوع في فخ التباكي واستدرار الشفقة من الجمهور، كما أن رهافة المشاعر وبساطة الشخصيات التي سحقتها الحرب تجعل الكل متساوياً مهما كانت حياتها السابقة في الماضي ومن هنا تأتي أهمية اللون الرمادي المحايد الذي يغمر الجميع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها