الأربعاء 2014/10/01

آخر تحديث: 16:31 (بيروت)

زيارة سورية للجنوب اللبناني

الأربعاء 2014/10/01
زيارة سورية للجنوب اللبناني
تشييع أحد قتلى حزب الله في كفر صير، كان قضى في المعارك بسوريا (عزيز طاهر)
increase حجم الخط decrease
زرتُ الجنوب، المكان الذي سمعتُهُ في أغنيات فرقة "الطريق" ومارسيل خليفة وجوليا بطرس. لطالما احتفظت علاقتنا بهذه البقعة من الأرض برمزية خاصة للغاية.. ويبدو أنّ القائمينَ على سياسات الجنوب -وفق التقسيمات السياسية اللبنانية- كانوا مصرّين على أن تبقى الرمزية في تعاطينا معه.
 
كنا نسمعُ بشغف وانفعالٍ فرقة الطريق: الأول الجنوب والثاني الجنوب والثالث الجنوب. تبتدي المحبة ويكبر المحبوب بتراب الجنوب يا عيني يا جنوب. ونحلّقُ مع "بلال" طير مارسيل الجنوبي.. ونسمعُ جوليا: أرضك والبيوت والشعب العم يشقى. 
 
كان لديمة، شقيقتي، صوت جميل وفريد، تغني لنا أغنياتٍ كثيرة عن الجنوب وسواه في أمسيات العائلة وجلساتها الخاصة. لكن صورة "المغنية" في الذهنية الشعبية لمنطقتنا كانت تطغى على تكرار إعجابنا بخامة صوت ديمة. غير أنّ أبي مرةً قالها حاسماً، وكنا أطفالاً حينها: كلّ مهنة فيها كلّ شي. المغنية مش عيب، شوفوا جوليا بطرس!! وقفتها على المسرح لحالها بتكفي، والتزامها وحشمتها و و و..
 
على هذا النحوِ من الخصوصية والفرادة بنيت علاقتنا مع الجنوب. كان من الممكن للجنوبِ أن يهزّ القناعات، أن يخلخل السائدَ في أي أمر منوط به. وبقيت كذلك إلى ما بعد عدوان 2006، وإن اختلفت آراؤنا على أسبابه وجدواه، كان ثمةَ فصلٌ دقيق بين الكارثة البشرية التي تحلّ بالجنوب وبين القائمينَ عليه.
 
جاءَ قسمٌ من الجنوبيينَ إلى سوريا، ولا بدّ أنهم أقدر على رواية كيفية التعامل معهم، آنذاك من قبل السوريّ. فاهتزازُ صورةِ حزبِ الله بعد حرب تموز لدى الكثير من السوريين، لم تكن لتؤثرَ على صورةِ الجنوبيّ المكلوم منذُ عقودٍ ثلاثة. إلى أن بدأت الثورة السورية.
 
ورغم الموقف الذي أخذهُ الحزبُ تجاهَ السوريين، والمقتلة التي دخلها من دونِ نية التخلّي عنها، إلا أنّ المشكلةَ الكبرى مع الجنوبيين تمثلت بشكلها الأصعب والأقسى في الموقفِ الأهليّ من سقوط القصير وقبلها اقتحام جامع خالد ابن الوليد في حمص، حينما رأينا جميعاً توزيعَ الحلوى في شوارع الضاحية الجنوبية. كان ذلك المشهد هو الأقسى بين المشاهد التي عشناها، وكانت اللحظة التي تبدّى فيها انكسارُ صورة الجنوبي في ذواتنا بشكل جليّ.
 
ولكنني زرتُهُ.. زرتُ الجنوب، محملاً بكلّ التناقضات والتخبطات السابقة، خائفاً من المكان وخائفاً من عيني التي ستراه وقلبي الذي سيشعره. البدايةُ كانت مع الخلل الذي أصابني ما إن رأيتُ أولَ القرى، على الأوتوستراد الموصل إلى هناك، هل الجنوبُ أخضر فعلاً؟
 
كنتُ أشعرُ، لا واعياً، أنّ الجنوبَ أرض صحراوية. منذُ كنتُ طفلاً لم أتخيلهُ غير ذلك. رغم كلّ الصور والمشاهد التلفزيونية التي رأيتُها سابقاً، إلا أنّ اللاوعيَ كان مصراً على رسمِ تلك الصورة، لا لأنه الجنوب وحسب، بل أسوةً بكلّ أرضٍ محتلّة، فلم أصدق يوماً كلّ الحكايا الفلسطينية عن البيارات والليمون والبرتقال والزعتر البري، كما ولم أصدق أنّ جبل الشيخ من أكثر البقاع السوريةِ غنىً واستراتيجية. كانت ألوانُ الأرضِ المحتلةِ صفراءَ أبداً، والرمالُ تحيطُ بها من كل صوب.
 
مشاهدُ القرى الجنوبية الأولى كانت كفيلةً بخلخلة الصورة في ذاكرتي عن المكان. خضراء، وواسعة. يتضّحُ الغنى في لونِ تربتها، والتنوّعُ من زراعاتها. إشكاليةُ الحكمِ الفرديّ الشموليّ الواحد أنّهُ يرسّخُ في وعيِ الناسِ اللونَ الواحد، الحزب الواحد، القائد الواحد، ولا يمكنُ لشيء أن يحملَ معنيين معاً.
 
كيف يمكن للساحلِ أن ينبتَ قمحاً؟! الساحلُ لليمون.. والسهلُ للخضارِ والحبوب، والجبالُ للتفاح واللوزيات. على هذا النحو، لم يكن باستطاعتي التصديقُ أنّ أرضاً واحدةً تستطيعُ إنضاجَ كلّ هذه الأشياء معاً!
 
وأين؟! الجنوب الصحراوي!
 
أقولُ لإليانا هذه الأشياء، بينما يبدأ ظهور صورِ الشباب الجنوبيين الذي ماتوا في سوريا. وقبلَ ان أربطَ الصور بأي معرفةٍ سابقة، أنظرُ لصورةِ شابٍ يبدو أنهُ لم يتجاوز العشرين وأقول: يا حرام.. الله يعين أهلو.
 
تتكررُ الصورُ، وتتكرّرُ الجملةُ، إلى أن أنتبه!
 
أينَ مات هؤلاء؟ على أيّ أرض؟ ضدّ أيّ خصم؟ وكرمى لأيّ قضية؟
 
أحاولُ النجاةَ من العاطفة، كما أحاولُ النجاةَ من التساؤلات السابقة، ذلكَ أن لا مهربَ من الإجابةِ أنّ هؤلاءِ كانوا قتلةً أيضاً، أو مشاريعَ قتلةٍ إن لم يسعفهم الوقتُ ليَقتلوا، قبلَ أن يتحولوا إلى قتلى.
 
في حالاتٍ كهذه، تصيرُ الأسئلةُ لعنةً لمن يريدُ الحفاظَ على ما تبقى من إنسانيةٍ لم تثقبها الحرب. إخفاءُ الأسئلةِ هنا مكمنُهُ الرغبةٌ في إخفاءِ الإجابات التي قد تأخذني للإساءةِ لصورِ شبّانٍ تمرّ أمامي على جانبي الطريق. وعيٌ ولا وعيٌ يتصارعانِ في شخصٍ واحدٍ، انتصارُ أحدهم هزيمةُ للآخر، أنا وقودُ هذا النزال، وأنا أرض المعركة!
 
لم يكن في بالي وقتئذٍ أنّ النجاةَ من العاطفيّ في هذه الزيارة ستكونُ آنيّةً وحسب، وأنّ الرصاصةَ التي تطلقُها هذه الزيارةُ نحوَ صدري ستخلّفُ ثقباً أوسع مما توقعت.
 
نهايةُ الرحلةِ، نلتقطُ – إليانا وأنا – بعضَ الصورِ، وأراقبُ المدى المتّسعَ لحقول القمح متمسكاً بدهشةِ التساؤلِ: كيفَ ينبتُ قمحٌ في الساحل؟
 
لحظات سريعة تمر قبل أن ألمحَ سفحاً جبلياً في الأفقِ بعيداً، كأنني عرفتُ هذا المكانَ قبلَ أن أسأل عنه، على الرغم من ذلك، أتغاضى عن توقّعي فأسألُ ليأتيني الجوابُ الذي توقّعت: هذا جبل الشيخ.. هذهِ سوريا.
 
سوريا.. لأولِ مرةٍ منذُ غادرتُها أرى أرضاً سوريّةً، لم أرَ خلفَ التلّ دخاناً، لم أرَ قذائفَ ولا حصارات.. ولم أرَ بشراً يتضورونَ جوعاً ويحاولونَ جاهدينَ إيجادَ فسحاتٍ في الأرضِ لدفنِ ضحاياهم.
 
رأيتُ أطفالاً يلعبونَ بكراتٍ قماشية صنعوها من جوارب مهترئة. أصوات عاليةً، وبائع مازوتٍ، وكهل يلعبُ مع جارهِ محبوسة على الرصيفِ الأماميّ لبقّالتِهِ القديمة نصف الفارغة. رأيتُ "شلاتياً" يجلسُ القرفصاءَ ويسندُ ظهرهُ إلى حائطٍ كلسيٍّ يتركُ آثارهُ على قميصهِ الأسود. كان يدخّنُ سيجارةً لا جزمَ في أنها من التبغِ الصرف. رأيتُ نساءً يقطّعنَ الفاصولياء ويقشرنَ الثومَ على عتباتِ منازلهنّ، يتحدثنَ بشفاهٍ يابسةٍ وأثداءٍ يابسةٍ عن "كنّةَ الحارة" الجديدة، وعجوزاً تجلسُ على مصطبةٍ قدّامَ المنزلِ تراقبُ كلّ شيءٍ دونَ أن تنبسَ ببنتِ شفة كما لو أنّها بلا ذاكرة... أو بلا حاضرٍ ربّما!
 
أشياء جميلةٌ تليق بصورةِ وطنِ المنفيين.
 
رأيتُ ما أتوقّعُ وأريدُ رؤيتَهُ في سوريا، صورةَ المكانِ التي أحبّ، لا صورةَ واقعهِ المدمى. 
 
نزالٌ جديدٌ أنا أرضُهُ، أتملّصُ منهُ مسرعاً هذه المرّة، لكنني ما إن أديرُ ظهري لسوريا "التي أراها للمرةِ الأولى منذُ غادرتُها كما قلت"، أرى مجدداً صورَ شبابِ الجنوبِ الذينَ ماتوا على أرضنا.
 
كيفَ للمكانِ ذاتِهِ أن يفعلَ كلّ هذا؟!
كيفَ يسمحُ لي أن أرى أرضي للمرةِ الأولى من على أرضِهِ، بينما صورتُهُ عندي مرتبطةُ بأنهُ يقاتلُ في صفّ من يحرمني رؤية نفس الأرض؟ كيفَ يفعلُ الجنوبُ كلّ هذا؟
 
أعلّقُ عيوني على قمةِ الجبل، جبل الشيخ الذي لم أحسّهُ سورياً في حياتي أكثرَ من هذه المرّة، وأمضي تاركاً الجنوبَ وفي حلقيَ شوكٌ وفي رأسي يدورُ السؤالُ نفسُهُ مراراً: كيفَ يفعلُ مكانٌ واحدٌ كلّ هذا؟!
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها