الأربعاء 2014/10/01

آخر تحديث: 16:17 (بيروت)

المولودون لطريق كهذه...

الأربعاء 2014/10/01
المولودون لطريق كهذه...
"فانتازيا حديقة حيوانات مدينية" للفنان نديم كرم
increase حجم الخط decrease
 امتلأت السماء بالنوارس. هذه لحظة لا تطول. سرعان ما تنقضي. لحظة انعتاق أرى فيها النوارس فوق رأسي  تتداخل وتتقاطع وتموج في رقص جماعي. تلهو تحت السماء نفسها التي خرجنا جميعا نتفرج عليها كالمسحورين ما إن أشرقت شمس دافئة. 
 
ليس مجازا أن السماء قريبة في أميركا. إنها دائماً تحيط بنا وهي أكثر المشهد الذي نراه. لا أضطر إلى ليّ عنقي إلى خلف كي أصل إليها. لا أضطر إلى النظر في هواء ملوث وغبار وأسلاك كهرباء وشرفات أبنية لكي يطالني منها القليل. هكذا هي، موجودة كيفما التفتّ.
 
قريبة، وصندوق فرجة مفتوح وكريم بالألوان والتكهنات والخيالات والمشاعر. صندوق مفتوح على الحنين وعلى الآن كما هو. وكما تكتب بتبدلات ألوانها الوقت اليومي، تكتب الفصول التي تأتي في مواعيدها وكما يجب أن تأتي. كأنها فصول في كتاب القراءة وفي نصوص الإنشاء الجميلة. وحين تسطع الشمس يبدو الربيع كما لو أنه حلّ لتوه، وحلّ تاماً ونضراً.
 
 لم تخضر الأشجار بعد. هذه الكائنات اللطيفة التي يستحيل عليك أن تطل على مساحة مفتوحة ولا  تلتقي بها. إنها، كالسماء، دائمة الحضور ودائمة التغير. متلونة وعملاقة وعادية وبأنواع لا تعدّ وعصافير لا تحصى والمدنية مزروعة في ما بينها وليس العكس. لم تخضر لكن بعضها أزهر. حل الربيع على البارك الملاصق لمطار رونالد ريغان في آرلنغتون التي يفصلها النهر عن واشنطن. خرج الناس على دراجاتهم الهوائية كالهاربين من السجون، ترتسم على وجوههم ابتسامات يعجزون عن إزالتها. على طول النهر، بمحاذاته، للمشاة وراكبي الدراجات دربهم الخاص المحمي، والذي له قوانينه وآدابه. 
 
السماء فرجة في "البارك". فيها نوارس، وفيها، دقيقة بعد دقيقة، تمر الطائرات العملاقة في الثواني الأخيرة قبل هبوطها على المدرج القريب. يهدر صوتها ونشعر أننا إذا رفعنا ذراعاً يمكننا أن نلمس حديدها اللامع. النوارس، بدورها، تخوض معها لعبة حياة وموت. تبدو كما لو أنها تنجو في اللحظة الأخيرة من الاصطدام بها، كأن هذه الطيور تتحدى لياقتها العالية في المناورة وفي الحرية. والناس يعجزون عن مقاومة مراقبة الطائرات عابرة فوق رؤوسهم. 
 
 نهر بوتوماك العريض يجيد التعويض عن البحر. على ضفته، وفي هواء شمال العالم، تحت السماء الرحبة، يسيطر الحضور الجلي للطبيعة الجامحة للقارة. هذه الطبيعة التي دجنت لتصير خالية من كل ما يمكن له أن يؤذي كل هؤلاء اللاجئين إليها متى استطاعوا. لكنها مستعدة دوماً للجنون وللجمال الفائق. هي الطبيعة نفسها التي رآها الأصليون ولم يروا غيرها، فاشتقوا آلهتم وأساطيرهم منها، حتى بدت أرضهم في عيونهم روحاً. 
 
مشيت لساعة قبل أن أصل إلى "البارك". فتحت باب البيت وخرجت أمشي. هوايتي، صديقتي الرائعة، ما زلت ممتناً لأميركا منذ اليوم الأول لأنها جعلت من البديهي ممارسة هواية المشي بأمان وبتلقائية العارف أن المشي ممكن وأن الأرصفة لن تعدم فجأة وأن هناك من خطط مسبقاً لتسهيل هذا الحق البسيط، الأثمن أحياناً.
 
إنها عادية لي، وللجميع قبلي. للعربة التي فيها طفل أو لكرسي الشخص المعوق. عادية للشخص الكفيف الذي تخبره إشارات مرور المشاة، بالصوت، متى يمكنه العبور ومتى يقف، ويمكنه أن يجيد التنقل وحده من ملمس عصاه على الأرصفة. وعبور الشوارع، حيث لا إشارات مرور كهربائية للمشاة، هو دائماً من حق المشاة أولاً. قانون بسيط وسهل وواضح وعادل ومنطقي في تفضيل المشاة على السيارات. نظام سير لا يترك تفصيلاً ناقصاً، ينهي الكثير من الثقل اليومي الذي كان يفيق معي في بيروت، وترافقني هواجسه من الخطوة الأولى خارج البيت إلى الحيز العام.
 
لقد اتفقت هذه المجموعة من الناس التي تعيش في أميركا على قانون ينظم خصوصية الفرد في الحيز العام. قانون يخبره، بالخطوط والإشارات والتفاصيل الصغيرة الدقيقة، ما له، حرفياً، وما عليه. يجعله يشعر بأنه ليس متروكاً كيفما اتفق. لا تعود الطريق تطبق على أنفاس المضطرين إليها، ولا يعود المجتمع المنبوش يلتهم الحيوات مثل وحش.
 
الطريق ليست خصماً ولا خطراً ولا عدواً لدوداً. إنها وسيلة لمتابعة الحياة أو لممارستها. وسيلة لتنظيم الوقت، لا لقتله. ولأنهم اتفقوا على مجموعة المفاهيم البسيطة للمكان، تمضي الحياة بسلاسة أن ينسى الواحد متى سمع بوق سيارة آخر مرة، وأن يجفل متلفتاً حوله إذا ما سمع زعيق بوق، إذ لا بد أن شيئاً ما قد حدث، استدعى أن يطلق سائق بوق سيارته لثانية أو اثنتين.
 
المقارنة ببيروت، مضحكة  بلا شك. إنها كالغرائب التي يعود بها المسافرون من بلاد الفرنجة. لكن الطريق هنا، لمن أمضى عمره في فوضى بيروت، حدثٌ، يتجدد طوال الوقت، مع شعور ما، عميق، بالغبن، لأن الكثير فاتنا بما أننا قررنا أن نفشل في الاتفاق على وضع قوانين مؤسسة لحياة مشتركة.
 
 ربما لم نكن نريد، من الأساس، هذه الحياة المشتركة ولم نكن نظن أننا سنستمر طوال هذا الوقت معاً في مكان واحد. وجاء تقاتلنا، مرة بعد مرة، ليؤكد ظننا الذي عاد ليتجدد الآن. ونحن نفرغ كل مكبوتاتنا في المكان المشترك، وهو للمفارقة المكان الخاص بالجميع، بصفته عدواً، من بوق السيارة، إلى رمي النفايات من نوافذ السيارات، إلى التعدي على كل تفصيل من الرصيف إلى الهواء، إلى اشهار السلاح بأشكاله، إلى رصاص الابتهاج بدمويين، أو بمناسبات دموية متكررة، إلى تفجير الأجساد، كآخر التجليات لكُره المساحة المختلطة وأقصى أشكال رفضها حيث لا يمكن لاثنين يختلفان إلى هذه الدرجة أن يبقيا حيّين في مكان واحد، ولو اقتضى ذلك موتهما معاً. لعنة شمشون وعدوه والهيكل.
 
كأن الدراجات الهوائية خرجت من تلقائها حين شعرت بسطوع الشمس. كذلك الابتسامات. المولودون في مجتمعات كهذه، ويمضون أغلب أعمارهم فيها، "نيّالهم". لا كلمة بالفصحى تفيد هذا المعنى كما هو. "نيّالهم".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها