الإثنين 2013/02/18

آخر تحديث: 07:37 (بيروت)

من هوامش دفتر الشتات

الإثنين 2013/02/18
من هوامش دفتر الشتات
increase حجم الخط decrease
لم أنسَ تحويل هاتفي إلى الوضع الصامت قبل دخول ذلك الاجتماع، حيث سنتحدّث عمّا يمكن فعله للتخفيف من الأزمة الإنسانيّة في سوريا. لديّ الكثير لأقوله، والعديد من المقترحات لأقدّمها، ولكن هل نجني أيّة فائدة من مثل هذه الاجتماعات؟ مرّ الصيف ومن بعده الشتاء ونحن نخوض في هذه اللقاءات، ولا تقدّم حقيقياً!
احتدم النقاش. يريدون من الجمعيات الأهلية الاستعداد للتدخّل فور وقف الأعمال الحربية. أختنق، أُريد أن أصرخ: ما نفع ذلك؟ سيكون القطار قد فات! أناقش: لا تريدون جبهة النصرة، ساعدوا السوريين على أن لا يكونوا بحاجتها.
رقم غريب يظهر على شاشة الهاتف. أووف... ألا يعلم أني لا أستطيع الرد؟ أتجاهله. غير أن صاحب الحاجة عنيد، لا يكفّ عن المحاولة. أشعر بالإحراج مع كلّ مرة يهتزّ فيها هاتفي على الطاولة، ومع الاتصال العاشر أقرّر استقبال المكالمة لأضع حدّاً لهذا الحرج.
صوت شبه باكٍ أتاني وسط ضجيج الزحام البيروتيّ، "عفواً أستاذ، فلان عطاني رقمك قال ممكن تساعد؟". يشرح لي المتّصل القادم من ضواحي دمشق، أنّ والده أصيب بأزمة قلبيّة وأجريت له عمليّة في إحد مستشفيات بيروت. "المفوّضية دفعت خمس وتمانين بالمية من أجرة المستشفى بس بقيان أكتر من ألف دولار ما معي ولا فرنك منّون. الله وكيلك يا أستاذ ما معي ولا ليرة. وما عميرضوا يطلعوا الوالد قبل ما انسكّر الحساب. صرلون أربع أيام حاجزينه، وكل يوم عم بترتفع الفاتورة". آهٍ من شعور العجز! ما الذي يمكنني فعله؟ المبلغ كبير! أستأذنه بالعودة إلى الاجتماع مع وعد بالاتصال بعد ساعة.
مرّ الوقت المتبقي من الاجتماع وأنا مهموم. والده رهينة المستشفى التي لم تبالِ بوضعه وبسنّه، حاله كحال الوطن الذي يقبع رهينة المخاوف وحسابات المكاسب. طوال الطريق إلى المنزل وأنا أفكّر في من يمكنني أن أطلب العون. مضت الساعة الأولى والثانية ومن ثمّ الثالثة دون أن أعاود الاتصال بالمسكين. مجموعة السيّدات اللواتي يساعدن في مثل هذه الظروف قد استنزفن. كان الشهران الأخيران ثقيلين بطلبات المساعدة الطبية والفواتير الاستشفائية الباهظة التي تولّين تغطيتها. أمراض السرطان والقلب والكلى، وحتى الولادات القيصرية، تستنزف مبالغ طائلة.
مع حلول المساء، أتى الفرج! اتّصلت إحدى السيّدات التي وعدت بمتابعة حالة مرضيّة سابقة، وما أن عرضتُ عليها الموقف حتّى تكفّلت بسداد المتبقي من فاتورة المستشفى. غمرني الفرح. أهي صدفة، أم توارد خواطر؟ قد تكون معجزة إلهيّة حتّى، وقد يكون الوطن بحاجة إلى معجزة من هذا النوع ليشفى. سارعتُ إلى المستشفى، حيث تلقّاني أبناء المريض بالأحضان والقبلات: "خايفين عالوالد ينجلط من جديد إذا بضل هون أكتر من هيك، الله يجزيك الخير يا أستاذ". لم تنفع محاولات الشرح بأنّ المبلغ لم يأتِ منّي، وبأني لست أكثر من مجرد واسطة. ظلّت عبارات الشكر تنهال عليّ من كل حدبٍ وصوب.
أترك الأب مع ابنيه يجهّزونه لمغادرة المستشفى – السجن، وأتجّه مع سيّدة تريد أن تعرض عليّ حالة أخرى. ندخل الغرفة لأرى سيّدة خمسينيّة محاطة ببناتها الباكيات، تحتاج إلى عمليّة عاجلة في حوضها المكسور تكلّف ستّة آلاف دولار. الأمم المتحدة أعطتهم موعداً بعد شهرين للنظر في الحالة، فيما الأمّ راقدة في سرير المستشفى، وبناتها يبكين أمام إلحاحها لإعادتها إلى إدلب.
"أفضّل الموت في سوريا لا على سرير المستشفى البارد"، قالت لهن ولنا.
هل كُتب للوطن وللإنسان فيه الانتقال من مأزق إلى آخر؟ من مصيبة إلى أخرى؟ كيف يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة؟
أعود إلى سريري، مثقلاً بخليط من المشاعر المتناقضة... كان يوماً صعباً. حلّت قضية وما تزال العديد منها تنتظر دورها... والحجر يا سيزيف ما أثقله!
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب