الأربعاء 2018/11/21

آخر تحديث: 18:03 (بيروت)

جندي جبان في بوتشينكي

الأربعاء 2018/11/21
جندي جبان في بوتشينكي
increase حجم الخط decrease
لم نكن نحمل شيئاً حين أقلّتنا الطائرة من جزيرة نائية. مئة شخص تم تقسيمهم إلى فرق من أربعة أشخاص. تستطيع أن تضع خيار الإستماع إلى جميع الركاب، وأول ما ستسمعه جملة عراقية شهيرة: "ماكو عرب بالطيارة؟"، تليها نبرات تهديد ووعيد، تحديات للمبارزة، وعود بالإذلال، بعض النكات من شاب مصري، المصريون يحتفظون بروح النكتة حتى أثناء توجههم إلى الحرب.

ثوان قليلة ونبدأ القفز من الطائرة. منذ لحظة وصولنا إلى الأرض، سيتعين علينا البحث عن أسلحة وعتاد، يبحث معظمنا عن بندقية رشاشة، M416 أو AKM. 

أنا أُفضّل قناصة بعيدة المدى مع منظار جيد. إخترت ألا ألعب برفقة أصدقائي، تاركاً للعبة أن تضعني ضمن فريق عشوائي. كنت في الفريق نفسه مع شابين عراقيين وفتاة سعودية اختارت لنفسها هيئة فتاة بيضاء جذابة. أتساءل كيف تبدو في الحقيقة خلف شاشة هاتفها. العراقيون دائماً موجودون، أعتقد أنهم الأكثر تواجداً في اللعبة. ربما تأصلت الحرب في حياتهم بعد سنوات طويلة قضوها في حروب لم تنته بعد. وهم مقاتلون جيدون، أقله في اللعبة، أرغب دائماً في اللعب إلى جانبهم. أما الأتراك، فمتعصبون. لعبت مرة مع فريق تركي رفض أعضاؤه مساعدتي حين تعرضت للإصابة، بقوا يتفرجون عليّ أنازع وحيداً، ومن يومها لا ألعب برفقة الأتراك.

اختار قائد الفريق أن ننزل في منطقة بوتشينكي، المنطقة الأكثر اكتظاظاً باللاعبين، مدينة صغيرة، سيكون القتال بين أزقتها. إن حالفك الحظ ولم تُقتل قبل أن تحصل على سلاح، فستُقتل حالما تطلق أولى رصاصاتك وتكشف عن مركزك. 

كلاعب جبان جداً، أختبئ كعادتي داخل أحد المنازل وأنتظر خفوت حدة الإشتباكات، الرصاص يأتي من كل اتجاه وأنا أكره الإشتباكات المباشرة القريبة، وأفضّل استرتيجية تضمن لي البقاء حتى النهاية. سأتركهم يقتلون بعضهم بعضاً.

الفتاة السعودية وجدت بندقية قناصة من نوع M24، اتخذت سطح أحد المنازل مركزاً لها وراحت تصطاد اللاعبين. كلما قتَلت أحدهم، صرَخَت: "ذبحته" بكل فخر وشماتة. أضحك. يعجبني استعمال السعوديين لفعل الذبح بدلاً من القتل. الشابان العراقيان يؤمّنان الحماية للفتاة ويقدمان المساعدة، مثل أي شاب حال وجود فتاة في الفريق. ذبَحَت الفتاة السعودية خمسة لاعبين قبل أن تطيحها قنبلة أُلقيت عليها. 

أتنقل مختبئاً من منزل إلى آخر. أتحاشى أي اشتباك، وحين أسمع وقع خطوات بالقرب مني، أشعر بارتفاع نسبة الأدرينالين في دمي، يخفق قلبي بسرعة وأبحث عن مخبأ قريب منتظراً ابتعاد الخطر. قُتل أحد الشابين العراقيين في فريقي، وحين حوصر الآخر داخل منزل، راح يناديني لأساعده: "رقم 4، رقم 4، ساعدني". لكني لم أتزحزح من مكاني. أخبرتكم أني لاعب جبان. صرخ العراقي: "قتلوني، قتلوني"، ومات. راح رخيصاً. 

ذكّرني بجارنا حين استيقَظ منتصف الليل علي صوت إبنه يصرخ "قتلوني! قتلوني!"، فهرع كالمجنون إلى غرفته ليجده يلعب Pubg. حوادث كهذه باتت مألوفة جداً. تكون جالساً في مقهى تحتسي قهوتك، ثم تسمع صوتاً خلفك: "إنتبه وراءك.. وراءك". تلتفت، فتجد شاباً يلعب Pubg. تتساءل: "إلى أين يتجه العالم؟". منذ أن حمّلت لعبة Pubg على هاتفي أصبحت شغلي الشاغل. إدمان غريب يربطني بها. هل هو حب القتل؟ الحرب؟ التواصل مع غرباء ألعب برفقتهم؟ ألعب أحياناً ثماني ساعات متواصلة بلا كلل. أتعرض للقتل فأعيد الكرة، من دون أن أشعر بمرور الوقت.

ألعب أثناء العمل، أثناء زيارتي لأهلي في القرية حيث تشتكي أمي من اللعبة وتتهمها بأنها مؤامرة لتدمير الشباب. كنت قد اعتدت ممارسة رياضة الركض مساء كل يوم. الآن، تقتصر نشاطاتي علي التواجد في جبهات Pubg. لا أقرأ، لا أكتب، لا أشاهد التلفزيون ولا السينما. أعتقد أن علاقاتي الإجتماعية باتت في خطر. أصدقائي الذين لم يقعوا في فخ اللعبة بعد، يفتقدونني. أصبحت، مع جماعة اللعبة، نشكل مجتمعاً خاصاً بنا.

في العادة، أفضّل الألعاب الإستراتيجية. لذلك ربما، Pubg بالنسبة إلي تتمحور حول إيجاد استراتيجية تضمن لي البقاء حتى النهاية. بالنسبة لمعظم الآخرين، هي أعلى معدل للقتل، لحظات مميزة وجميلة، كأن تقنص جندياً من مسافة بعيدة وتقتله برصاصة واحدة في الرأس، أو أن تقتل وحدك فريقاً بأكمله، تشعر بمعدل الدوبامين يرتفع، ولا يهم بعدها إن متّ أم عِشت. 

مضى على بداية اللعبة حوالى نصف الساعة. ساد الصمت مدينة بوتشينكي الصغيرة. صناديق مليئة بالعتاد والأسلحة خلفها جنود قتلى. خرجت من مخبئي، جمعت ما أنا بحاجة إليه وغادرت بوتشينكي. وقفت على تلة مشرفة عليها، أراقب المساحات الخضراء المحيطة بها، وكانت السماء موشحة بلون أرجواني جميل، ربما كانت مدينة تليق بالعيش فيها. حتى اللحظة، أنا لم أقتل أحداً، بقي لاعب واحد معي، وها أنا ذاهب لقَتله.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها