الثلاثاء 2022/08/09

آخر تحديث: 16:05 (بيروت)

حينما طار أبي ذرّ الغفاري فوق قريتنا

الثلاثاء 2022/08/09
حينما طار أبي ذرّ الغفاري فوق قريتنا
الضاحية الجنوبية لبيروت في آب/أغسطس 2006 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كان جدي يقلق حين يسمع أصوات القطط تتصارع في الخارج، فيقول إنه صراع الأرواح في مكان ما، وهذا بحسبه مُنذِراً بشَرٍّ قريب. وحين كانت طائرات حربية إسرائيلية تقترب من سطح منزلنا، حتى تكاد تقبّله، كان جدي يقول: "كلاب ما بيسترجوا يعملوا شي".

وكبرت وأنا أكرر كلمات جدي، كلما سمعت هدير الطائرات. حتى أنني صرت أميّز بين صوت "أم كامل" أي الـMK، طائرة الاستطلاع الإسرائيلية، وصوت طائرة سلاح الجو، وأقول لابنة أختي: "لا داعي للهلع، عم يصورونا بس". تسألني ابنة أختي: "ليش عم يصورونا؟"، فلا أجيبها، ثم أسألها عن رغبتها في العودة إلى تمارين الجمباز.

للمفارقة، منذ الصغر وجدت أجوبتي عن تلك الأسئلة: "بيصورونا ليحددوا مواقع يقصفوها". وهذا ما قاله لنا جارنا العمّ علي، حين سألناه، نحن من لم تتجاوز أعمارنا الثامنة في حرب تموز- آب 2006. قبل تلك الحرب، كنا نكمل اللعب، وكلما اقتربت طائرة، كنا نقف لنصرخ ونمدّ ألسنتنا ساخرين منها. تعلمنا كيف نحول خوفنا إلى هجمة مرتدة. يظن العم علي وغيره، أننا لا نخاف، ويفخرون بنا جميعاً. لا يعلمون كم مرة تخيلنا في تلك الحرب جنازاتنا، حتى أننا كنا نتصارع على مَن الأولى التي سيُغطي نعشها علَم "حزب الله".

لم يفكر أحد بنا في تلك الأيام. ومذّاك لم أحصل على جواب واضح عن سؤالي: لماذا لم نغادر، كما فعل الجميع في حرب تموز- آب 2006؟ أذكر كيف أمّن "الحاج المقاتل" الطريق لهروب عائلته إلى سوريا. لم يتمسكوا بالصمود، ولم ينعتهم أحد بالجبناء. عادوا جميعاً بعد الحرب حاملين ذكرياتهم السعيدة عن إجازة الصيف التي أمضوها خارج منطقة الحرب، في سوريا وفي شمال لبنان. أما أنا، فبقيت أعاني لشهر كامل بعد قصف "جسر الكَحلى"، الأقرب إلى منزلنا في الصرفند، جنوبي لبنان. لم أُصَب يومذاك، لكن قدمي آلمتني، وما زلت أجهل السبب. قالت أمي إن الصدمة هي السبب: "لم يكن القصف متوقعاً. نقزتي وأكيد كرمال هيك عم تعرجي"، قالت. لم نكن نجلس في المطبخ، حيث المكان الآمن، بحسب أمي التي كانت تسحبنا إليه كلما علت أصوات طائرات سلاح الجو.

عادت صديقتي مايا بعد الحرب، من جونيه، سعيدة جداً، إذ كانت قد قضت أجمل أيام حياتها، وأقامت صداقات جديدة ولعبت. نزحت مع عائلتها إلى جونيه، فاستقبلهم المسيحيون هناك. ورغم أننا كنا في البلاد ذاتها وفي الوقت نفسه، فقد حصدنا ذكريات مختلفة، مختلفة جداً. هي لم تعرف ما يعنيه الموت، ولا عرفت قصص الشهداء في القرية المجاورة. عدنا نلعب معاً كما كنا نفعل قبل الحرب. أنا أحدثها عن الليلة التي مر فيها طير أبيض فوق الضيعة، وهي تحدثني عن صديقها طوني وعن سماحه لها باستخدام الكومبيوتر الخاص به، وعن الوجبات الجديدة التي جربتها. أما انا فأذكر جيدًا كيف صرت أحب البازيلا طوعاً، لعدم توافر سواها. حدثتني عن حوض السباحة الكبير حيث سبحوا طيلة تلك الأيام في تموز الحار. فأعود لأحدثها عن الطير الأبيض الذي قصته طويلة...

كان العم أبو أحمد يقرأ القرآن على الشرفة، فيما أصوات القصف لا تهدأ. مرّ طائر أبيض كبير محلقًا فوق الضيعة. مر فوق بيوتنا جميعاً. صرخ أبو أحمد: "طائر أبي ذر الغفاري. لن تُقصف ضيعتنا، لن نموت في هذه الحرب". لم يكن مرور الطير حدثاً عابراً. صدق الجميع قول أبي أحمد، الذي انتشر في الحي، مضافًا إليه: "هذه منطقة جبل عامل، أبو ذر الغفاري حاميها". كان ذلك كافياً لتنتهي الحرب في حيّنا. ارتاحوا جميعاً وصدقوا، رغم أن العدو قصف الجسور المؤدية إلى المناطق الأخرى، وحوصرنا. لكنهم اختاروا أن يصدقوا ما ابتدعوه. لم تقتلنا الحرب. لكن ماذا عن الخوف؟

الخوف في الجنوب للجبناء: "بدك يفكرونا خيفانين منن؟ ممنوع نخاف. نحن مقاومون. ما منخاف. نحن أقوى". في أحد عروض الممثل الكوميدي حسين قاووق، وهو يروي أحداث الحرب، يقول على لسان والده: "إذا ضربوا منضرب". هذه ليست طرفة. هذا ما يقوله الجميع هنا، بلا أدنى اهتمام بما يحدث حين يضرب العدو. "لا بأس، نسقط شهداء". تعلمنا أن لا نتمسك بالحياة منذ الصغر. لا بأس في أن نموت فداء الوطن. فخوفنا ضَعف قد يستخدمه العدو ضدنا. لا يجب أن يعرف أننا نخاف.

كنا صغاراً. كيف يخفي الصغار خوفهم؟ كنا نلعب. تعلمنا تجاهل خوفنا. حتى حين فقدت دواء الربو وكدت أموت في حال تعرضي لنوبة ربو، كان يجب ألا أخاف. كان على رجل من أحد الأحزاب أن يؤمن لي بخاخة الربو، شرط أن يدفع والدي ضعف ثمنها، رغم أن المساعدات التي حصلت عليها الأحزاب كانت تكفي لتغطية تكاليف علاج جميع مرضى الربو في المنطقة. لا يجب أن نخاف من الموت بصواريخ العدو. لكن كان على أمي أن تخاف حين انقطع دوائي. سألتها ذات يوم: هل يأتي الطير الأبيض الذي يحمي الضيعة حاملًا الدواء؟ لم تجب أمي.

لماذا لا نخاف؟
نحن نبني علاقة وطيدة مع الخوف، منذ الصغر. الخوف من الله. الخوف من العائلة. الخوف من المجهول. من العقاب. من الغد. خوف يزرع في داخلنا شعوراً مصدره الأعلى منا شأناً اجتماعياً وعقائدياً. للخوف وجهان: الأول يحدّ من تجاربك في خضم الحياة. والثاني يعلّمك كيف تحافظ عليها. الخوف من فقدان حياتك يعني أنك ما زلت تملك غريزة البقاء. والخوف من الحرب، أي من الموت، أمر بديهي، لا يحبذه الجميع هنا. وللأمانة، كَوني ابنة بيئة "لا تخاف الحرب"، كانت بيروت فرصة لاستعراض بطولاتي أمام مَن يغطون رؤوسهم بأيديهم حين يسمعون صوت طائرة: "هيدي سيمفونية عنا بالجنوب، عادي يعني ما تخافي"، أقول لزميلتي في السكن، وهي ابنة الجبل. كنت أسخر منها، حتى وقع انفجار 4 آب 2020. كنا معاً حين ارتطم رأسي بالأرض. صرت أخاف من صوت إغلاق الباب.

سألت نفسي أكثر من مرة: كيف لي، أنا ابنة حرب تموز، أن أهلع؟ كيف صرت هشة إلى هذا الحد؟ كان يجب ألا يؤثر فيّ ما حدث في بيروت. أنا قوية، لا أخاف الحرب ولا أخاف العدو. في الجنوب، حين أخبرت أحدهم أني أخضع لعلاج نفسي من التروما، بسبب انفجار المرفأ، ابتسم وقال لي أن ما حدث في حرب تموز، وما مررنا به في الجنوب، يفوق ما حدث في بيروت. لكني خائفة حتى اليوم. ربما للمرة الأولى، استطعتُ الاعتراف بالخوف أمام مَن شعروا مثلي هنا. هذه المرة كانت الأولى، نعترف أننا نخاف الموت، نخاف المجهول، نخاف مما يخطط له العدو. وبعد آب 2020، بات خوفنا الأكبر مما يخفيه النظام ومن خططه لقتلنا.

تركت منزل العائلة منذ عامين. وعندما أزورهم لا أقابل أحداً خارج المنزل. بعد عامين خارج ذلك المكان، استطعت أن أصرّح بلا أن أوصَم بالجُبن: نخاف أن نموت، أقتلونا متى أردتم، لكن اسمحوا لنا أن نكشف عن خوفنا. خذوا بطولاتكم، احتفظوا بها في الأماكن التي تختبئون فيها حين تقع الواقعة، ونُترك عُزّلاً لا نملك سوى خوفنا. إعلموا أن الطيور، مهما كان لونها، تهاجر حين تستشعر الخطر، وما من رسالة أخرى ترسلها اليكم في تلك اللحظة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها