الإثنين 2021/10/18

آخر تحديث: 14:08 (بيروت)

الأمل المنهوب

الإثنين 2021/10/18
الأمل المنهوب
من التجمعات الخجولة في ساحة الشهداء لإحياء الذكرى الثانية لانتفاضة 17 تشرين (غيتي)
increase حجم الخط decrease
استيقظتُ صباحَ اليوم. إنّه السابع عشر من تشرين الأول. مرَّ شريط الأحداث في مخيّلتي وأنا أرتشفُ قهوتي. قهوتي اليوم فيها مرارة لا أحتملها. رأيتُ الساحة الكبيرة المكتظّة بمن هبّ ودبّ، وفوقها مفرقعات حمراء، وشمَمتُ رائحة العرق والدّخان والعرانيس التي لم أذُقها يوماً، وسمعتُ أصواتاً وهتافات كانت تجعلُ قلبي يخفقُ وكانت، إنّني أعترفُ، تُخيفني. تداركتُ سريعاً أن سنتين قدّ مرّتا على هذه الأحداث، وأنني مُرغمة على التحدّث عن "الثورة" بصيغة الماضي.

لم نعُدْ مَن كنّا.
اختلفَت اللحظات السياسية والتنظيمية منذ بدء الانتفاضة الشعبية حتّى تلاشيها. لم نحلّل كثيراً ولم نفكّر، فكان وجودُنا في الساحة في تلك الأوقات أمراً طبيعياً وواضحاً كوضوحِ الشّمس. وكان الزخم السياسي في بداياته عفوياً، فلم يتطلّب الأمر أن ندعو رفاقنا ومجموعاتنا للانضمام إلينا ودعمنا، أو أن نذكّرَ الشباب والنساء بغضبهم/ن كحجّةٍ للحضور إلى ساحات المعارضة. كان الغضب هو سيّد الموقف، وكان المجتمع بكل أطيافه وفئاته واختلافاته، ملتفاً حول نفسه، لا يأبه لشيء إلا حاجته إلى قول "كفى" لمن هم في السلطة. كنا نقفُ هناك، لا ندري من هم الأشخاص الواقفين إلى جانبنا، لكننا كنّا على ثقةٍ تامّةٍ وعمياء بهم، كثقة موج البحر بنفسه حين يرتطمُ بصخور الشاطئ غير آبهٍ بمصيره، لأنه يعلم أنّه إذا وقع سيمدّه البحر بأمواجٍ أخرى، إلى حين انتهاء العاصفة.

كثُرَت التحليلات والمطالب، وبيّنَت الاختلافات في صفوف المعارضة، كما الذئاب الوصولية والانتهازية، التي ما لبثنا أن انتفضنا حتّى كشفَت عن أنيابها وبدأَت تستغلُّ آلام الناس وآمالهم، بهدف خلافة دُمى المنظومة والحلّ محلّها بما فيه مصالحها المادّية والسلطوية. فتشرذمَ المجتمع، وانقسم مجموعات مغرورة ترفضُ الالتقاء. لكنَّ أمرَّ وأقسى ما في الأمر هم أولئك الذين يشمتون بنا اليوم ويسألون "أين الانتفاضة؟" و"ليش ما بتنزلوا؟".

وسرعان ما جاءَت صورة تفجير مرفأ بيروت، لتضربَ عرض الحائط بهذه الذكريات، وتُسوِّدَ مخيّلتي.

لعلّهم نسوا، أو تناسوا، لحظة الرابع من آب2020. نعم هي أيضاً "لحظة" سياسية، أراد المجرمون من خلالها إيصتال رسالتهم بوضوح، والتأكيد لنا أنّهم مستعدون لقتلنا في بيوتنا وتدمير مدينة بأكملها وفرض اليأس على المجتمع بأي طريقة كانت، مقابل التخلي عن سلطتهم الباطلة.

لهؤلاء أقول: نحن لم نُخفق، إنّما سُلبنا النجاح. سُلبنا الانتفاضة بجهود كلّ أركان هذه المنظومة السياسية التي، تارةً أنزلَت بنا أشدّ أنواع العنف الجسدي والمعنوي لتقولَ لنا "نحن الأقوى"، وطوراً رفعَت إصبعها لتنبّهنا لخطورة اشتعال الحرب الأهلية وتهدّدنا بطريقة غير مباشرة، كمحاولة ناجحة منها لنشر الخوف والذعر. إن منظومة "4 آب" قتلتنا، بل أفنت أرواحنا إلى أجَلٍ غير مسمّى. منظومة "كراتين الإعاشة" هذه، هي نفسها التي نهبت مال الشعب، وما زالت تُفقرُه وتقهره يوماً بعد يوم، وتتّخذُه رهينة فسادها وفجورها، لتضمنَ لنفسها أصواتاً انتخابية في الانتخابات المقبلة، ولتقفَ في وجه أي محاولة اختراق أو نجاح، وهي تلقي علينا أشعار الأمل والثقة والعبور إلى الدولة المدنية ونهوض طائر فينيق الشرق.

إننا نعيش على فتافيت هذه الذكريات، ونعتاش مما تبقّى لنا من وطنٍ، ونبحث في زوايا بيروت الحبيبة عما يدفعنا إلى النزول إلى ساحاتها لنكتشف، بعد محاولات فاشلة، أننا نبحث عن بيروت نفسها. نحن لم نفقد الأمل أيها السادة، لم نسلّمْ الروح بهذه السهولة. إنّما الأمل، حتّى الأمل، نهبوه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها