الثلاثاء 2017/12/19

آخر تحديث: 15:51 (بيروت)

ما فعلته بنا زينب!

الثلاثاء 2017/12/19
ما فعلته بنا زينب!
هكذا كنا حينها، نستمع، نخاف، نصمت ونرتجف (عن الـalhikmeh.org)
increase حجم الخط decrease
ما زلت أذكرها جيّداً. تتراءى لي وهي تقف أمامنا بزيّها الكحلي الفضفاض والطويل، وغطاء رأسها الممتد من رأسها حتى أسفل ظهرها. يداها متشنجتان، وقبضتها مشدودة فيما تخطب فينا، نحن تلميذاتها الصغيرات. تملي علينا مفهومها لتعاليم الدين والأصول الشرعية، تفيض نبراتها بالحديث عن عذاب القبر والآخرة، وما ينتظرنا من عقاب شديد ومهول في حال عدم التزامنا بها، وما ينتظرنا من صنوف التعذيب وشتّى أنواع التنكيل إذ ما أضعنا المسار وخطونا في سبل الضلالة.

كانت براعمنا بالكاد تتفتح في سنتها الثانية عشرة، وكانت "الأخت" زينب، كما استوجب العُرف في مدرستنا أن نناديها، قد اختارتها الإدارة لترافقنا من سنة دراسية غلى أخرى. نكبر، وتوجيهات الأخت زينب تكبر معنا، إلى أن أضحت جزءاً من معادلة فهمنا الأوّلي المشوّه لأنفسنا وحيواتنا. الحياة في منظورنا، تبعاً لتوجيهاتها، كانت بلا احتمالات: صواب أو ضلال، أبيض أو أسود. هكذا علّمتنا وصوّرت لنا تلاوين الحياة. نتسمّر في مقاعدنا، ونُفجع، نفتح أفواهنا رعباً، وتستحوذ على خيالنا الطفولي مشهديات يوم الآخرة بوقعها الثقيل الساحق على نفوسنا الطريّة. تشقّ أنفاسي إيقاعات الخطو على درب الجلجلة. أفرد يديّ يمنة ويسرى جاهدة كي أوازن الخطى وأنا أمشي على ذلك الخيط الرفيع كالشعرة، والذي أخبرتنا الأخت أنه يُسمّى "الصراط المستقيم"، وكيف أنّ المؤمن الصالح يعبره بعجل ويُسر، على عكس من أثقلته ذنوبه، التي ستطيحه وتوقعه في جحيم جهنّم الملتهبة الماثلة تحته.

يهيبني المشهد ويقبض على أنفاسي، يقشعّر جسدي، لأصير أنا، الطفلة، مثقلة بكل هذا الخوف ومجبرة على التمحيص في فرضيات عالمي الصغير الذي بالكاد يتسع لي. وأخوض في معادلات الحساب: ماذا لو لم اجمع عدداً كافياً من الحسنات؟ هل سأقع؟ وماذا سيحلّ بي؟ وما هو المصير والمآل إن زلّت بي القَدَم، ومن سيسعى إلى إنقاذي من هذا العذاب الأبدي، حيث تنتظرني صنوف العذاب وكؤوس الصديد، حيث المطارق العملاقة تدّق المسامير الحامية في أذنيّ في حال سمحت للموسيقى "الحرام" بأن تنفذ إليهما، وحيث سأُعلّق من شعري في ما لو حسرت الحجاب عن رأسي وبان طرف غرّتي. وتتلاحق مشهديات الرعب تلك، وتنتقل بي من صورة إلى أخرى، تصحبني إلى سريري وتؤرقني ليلة تلو أخرى، كأنه لم يكن يكفيني فعل تفاصيل الجرائم في روايات أغاثا كريستي وأرسين لوبين، التي كنت أنكّب حينها على قراءتها.

هكذا كنا حينها، نستمع، نخاف، نصمت ونرتجف. يعجبهم صمتنا، يشّجع معلمي ومعلمات الدين على تجريب المزيد من أساليب الترهيب والتنكيل. نحن الذين يبتلعنا الخوف، ينسلّ عميقاً في شراييننا، ويجد طريقه إلى كل ما يصادفنا في يومياتنا. لم يكن ما يندرج تحت مسمّى "التربية الدينية" يتيح لنا أن نفهم الدين من منطلقات ومداخل أكثر سلاسة ومرونة، تُراعي هشاشة تكويننا النفسي والعاطفي والفكري في تلك المرحلة، عندما كنّا في أمسّ الحاجة إلى من ينمّي خيالنا ويداعبه ويدفعه نحو الإبداع والتميّز، كوننا كنا لم نزل مشاريع مجهولة الصيرورة والمصير. من سنكون وكيف سنكون؟ كان لنا اختناق الحُلم وكانت قبضاتهم تلتف عليه وتقتله.

كنا نستحق أكثر من الزجّ بنا إلى كوابيس لا تنتهي، نجد أنفسنا بسببها في أنفاق مظلمة بلا ضوء ولا مخرج، نتصارع فيها وحدنا مع مخاوفنا، التي تتغلغل فينا عميقاً تاركة آثار بالغة السلبية في داوخلنا، تتفاقم وتكبر معنا ويصعب الخلاص منها، وهي عند كثيرين تماهت وتكرّست مندرجاتها لتصبح أسلوب حياة مقيم. ويصير الدين في لاوعينا مرادفاً لها، كأنّه الثقب الأسود العظيم، الذي يبتلع السعادة، وكأنه الكلمة المضادة للفرح والحب للحياة بل ولأنفسنا، وكأنه يضحي التضاد لطبيعة الإنسان واحتياجات معاشه.

لم تعد الأخت زينب موجودة في هواجسي. جرفها الوعي مع كوابيس الطفولة، التي تلاشت منذ زمن، وأضحى حضورها مجرّد وشاحٍ داكنٍ يتطاير ويتهادى على ضفاف الذاكرة. نفض الغبار عنه، حديث دار مؤخراً بيني وبين إحدى زميلات مقعد الدراسة، والتي كانت تسكنها هواجس اضمحلال الفردية وكيفية التفلّت من سياسة القطيع. قلّبنا دفاتر يومياتنا، وما جادت به ذاكرتنا من منطويات نفوسنا، مسقطتَين عليها وعينا الحديث، وما استلزمه من تنقية الشوائب وكيفية صقل الأثر من تراكم الغبار الذي علق على مرايا الذاكرة، ما يجعل انعكاس ومضاتها أكثر إشراقاً وأقل سواداً ووطأة، وعن كيفية الدوس على درجات سلّم الارتقاء بتكريس قيمٍ فات الأخت زينب زرعها فينا، كالتسامح والمحبة والتصالح مع الذات، ومحاربة فيروسات الترهيب التي اختلطت مع جهازنا اللاواعي ومع مستلزمات التأطير والتكامل بين منهجية السلام كأسلوب في البحث الشغوف عن الحقيقة، وما واكبه من تفكيكٍ لأفخاخ التخويف ومكائد السيطرة، وهواجس البعد عن وسط القطيع الآمن. وهي كانت هواجس كفيلة بطحن ذواتنا وسحق الثقة فيها، وصولاً إلى ماهية تنظيم العلاقة مع الله والآخرين وأنفسنا، بعيداً من وطأة الذنب وفوبيا الانفتاح على ثقافات وبيئات أخرى، كجسرٍ من الترابط بين أصالة العقيدة ومستجدات الحداثة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها