الإثنين 2018/07/23

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

صور.. لبناننا الصغير

الإثنين 2018/07/23
صور.. لبناننا الصغير
"صور هي المدينة الوحيدة التي تسمع فيها صوت الآذان حين يكون كأس الخمر في يدك"
increase حجم الخط decrease
أحد عشر عاماً من التنقل اليومي لمدينة صور، بَنَت علاقتي العاطفية بالمدينة. كانت تتبدّل مستوياتها، تبعاً لحجم الارهاق الذي ينتابني جراء رحلة تتراوح بين ساعة وساعة ونصف للوصول الى مدرسة "قدموس" في صور، أو العودة منها.

لم تتطور العلاقات الى اقتناع بالمدينة، والشعور بالانتماء اليها، الا بعد انقطاع ثلاث سنوات عنها، حين عدت اليها في العام 2000. عندها اكتشفت أن صور، هي وطن صغير. أرفض الآن حصرها بالحملة التي تسعى لتثبيت المدينة كوجهة سياحية. هي أكبر من ذلك. هي لبنان مصغّر.

لم أدرك أسباب تعلقي بمدينة صور عندما كنت أرتادها لغرض الدراسة في "قدموس"، المدرسة التي مثلت حلماً لتلامذة الجنوب وعائلاتهم في ذلك الوقت، ولا تزال حتى الآن رغم اتساع مروحة الخيارات التعليمية في الجنوب. 11 عاماً قضيتها على الطريق المؤدي اليها، في رحلة كانت تزيد عن الساعة يومياً. وازدادت نصف ساعة في منتصف التسعينيات عندما اتخذ القرار الرسمي بتعبيد الطريق الساحلي، ما ألزمنا العبور في طرقات البساتين للوصول الى مدرستنا. 

كانت صور، منذ الثمانينيات، مثالاً للمعرفة بالنسبة لطفل. تعرفت بالشكل، الى قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة جنوب الليطاني. وبالمضمون، تعرفنا الى الآخر. ففي عزّ الحرب والانقسام العمودي في اواخر الثمانينيات، كان الصف المدرسي مصهراً للتنوع، تعرفنا فيه الى الآخر. كان الصف يجسّد التعددية اللبنانية، ويكرّسها. فالصف المدرسي، يحوي طلاباً بأجنحة الوطن كافة: المسلم والمسيحي، والسني والشيعي، والمقيم والمغترب، واللبناني والفلسطيني... جمعنا إنشاد النشيد الوطني اللبناني صباح كل يوم، قبل الدخول الى صفوفنا. الصف هنا، كان جزءاً من مصهر مدينة صور الانساني. صورة مصغّرة عنه. 

لم نكتشف أسباب الانتماء الى المدينة، الا متأخرين. العلاقة العاطفية، استحالت قناعة بأن وجود المدينة، والانتماء اليها، ضرورة وطنية. فهي مثال للعيش المشترك. مثال للتنوع، وللتعددية. تجول اليوم في المدينة، فتجد اطياف الصف المدرسي الاول في ثنايا الشوارع والازقة. لا تعرف المدينة، التي بقيت بعيدة الى حد كبير عن الإقتتال الاهلي اللبناني، فوارق طائفية أو عرقية. هي مدينة مفتوحة، وحاضنة للجميع. ويكاد يُختصر حالها، بما عبّر عنه كاتب لبناني حاورته في العام 2009 بالقول: "صور هي المدينة الوحيدة التي تسمع فيها صوت الآذان حين يكون كأس الخمر في يدك". 

من هذا المنطلق، تصاعدت حملة الانتقاد خلال اليومين الماضيين لأصوات تسعى لتقويض هذه الوجهة التي عُرفت فيها صور منذ قيامها. الحرية الفردية السائدة، تتصدر أولويات سكانها الذي يواجهون صوتاً متشدداً حاول المسّ بأقدس مقدسات المدينة: حريتها الشخصية، ووجها الفَرِح.

فالمدينة لا تحيا إلا بهذا الوجه. وقامت أساساً على هذا الدور. فالحانات لا تبعد كثيراً عن المساجد. وأصوات أجراس الكنائس تتردد في أرجاء المدينة القديمة، تلك التي باتت وجهة سياحية للباحثين عن مشهد مغاير يعبق بالحنين، ويرغبون بمشاركة ابناء "الحارة" يوميات الصيادين وملائكة البحر. 

لم تكن صور، التي عرفت، يوماً، إلا مدينة مفتوحة. لا تشدد يحكم يومياتها ولا تطرف. ولم تعرف المبالغة بممارسة الطقس الديني. أرتادها، كلما سنحت الفرصة، لممارسة طقس الحلم على شواطئها، وأعبر منه، بالخيال، للاطلالة على بحر فلسطين. البحر هنا، مساحة مفتوحة للحب، كما هو مساحة مفتوحة للأمل المتوارث منذ عبور الفينيقيين الى تونس ومصر وبلاد ما وراء البحار. 

في صور، تتجذر الأحلام، كما العيش المشترك. لكن الأخير هنا، حقيقة لا تنام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها