الثلاثاء 2018/10/23

آخر تحديث: 19:51 (بيروت)

أقنعة

الثلاثاء 2018/10/23
أقنعة
increase حجم الخط decrease
بالكاد استطعت سماع خطواتها وهي تنزل الدرج من الطابق الثالث، تهمس لي بصوتها الدافئ: صباح الخير، وتترك المكان عابقاً برائحة عطرها الآسرة. 

كل صباح تستيقظ مبكرة، تُعد القهوة، تضع فنجانين على طاولة المطبخ، وتشرب فنجانها وحيدة، بعد أن تكون قد دلكت وجهها بالكريم المرطب. أمام المرآة تضع "البرايمر" على الجفون، توزع "الكونسيلر" على محيط العين لتخفي الهالات السوداء المتزايدة، تضع البودرة وتمزج الألوان فوق جفنيها، ثم ترسم بالآي لاينر الأسود خطين متوازيين يتوقفان في نقطتين متناظرتين تقريباً، ثم تعيد وضع الماسكارا مرات ومرات. تُفتش في فنجان القهوة عن إشارة ما، أي إشارة قد تمنحها أملاً، فلا تجد.

في المرآة تختفي تلك المرأة التي تنتظر طوال الوقت حصول معجزة تغيّر حياتها، تختفي مع كل طبقة من الكريم وتتلاشى مع كل خط ترسمه. في المرآة تختفي تلك المرأة التي تقضي يومها في التنظيف والتعقيم والطبخ والجلي و الكنس والمسح، في نشر الغسيل وفي طيّه، في تعليم الأطفال والعناية بهم وحدها، تختفي تلك المرأة التي تُغتصب ليلاً كمكافأة لها، كواجب عليها تقديمه من دون أن تحس بشيء، ثم تنام بين أطفالها بعد أن ينهكها التعب والبكاء الصامت.

في المرآة نساء كثيرات يتحولن، يتبدلن، يخترن وجوهاً جديدة تخفي تلك الخيبات وتلك الأحلام المهزومة.

كل صباح، مئات النساء يذهبن للعمل بوجوه لا تشبههن وبابتسامة مزيفة، وبأقنعة تقول لنا أن كل شيء بخير. وخلف تلك الأقنعة أجساد منهكة، وقلوب متعبة، مجتمع لا يرحم وقوانين لا إنسانية.

في غمار مسيرتي
وسط الغمام والسحب
في الجبال التي لا تعرف لها دروب 
أجدني عاجزاً ضل الطريق
أنّى لي 
أن أعرف الطريق؟ أنّى لي أن أعرف الطريق.

يتلوها أحد الممثلين في مسرح النو 能 الياباني، حيث يرتدي الممثلون أقنعة خشبية بلا مشاعر، مشاعر عليك أن تدركها من خلال تصرفاتهم فقط، والصمت لا يقل أهمية عن الكلمات المنطوقة.

وسط الاعتصام يقف حازم أبو عمار جباراً، بعدما قتلت "داعش" والده وأخويه واختطفت نساء وأطفالاً من أقاربه، لكنه مجرد قناع يخفي غضبه وهشاشته وخيبته، عجزه وعجز الآخرين حوله. وما الذي يستطيع فعله سوى افتراش الرصيف والإنتظار صامتاً، أمام آلة للموت لا ترحم.

منذ سنوات رفض إبني أن يخرج معي للتسوق من دون أن يضع قناع "غاي فوكس" (Vendetta) على وجهه. كان يسبقني بخطوات واثقة، مخفياً ضعفه وخجله وراء قناع أضحى رمزاً للثورة ومقاومة الظلم.

منذ القِدَم، تستخدم البشرية الأقنعة، للطقوس الدينية، للحفلات التنكرية، للمسرح، للمهرجين للسحرة، للقتال، للجرائم، للهالوين، للتمييز، والكراهية، للرياضة، للأبطال الخارقين، للثورة. 

أما نحن، هنا، في هذا المكان نضع الأقنعة لنختفي داخلها، لنخفي خيبتنا وعجزنا وانتظارنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها