الجمعة 2022/10/07

آخر تحديث: 20:03 (بيروت)

مراكب الموت.. لم يعد هناك المزيد ليُرى

الجمعة 2022/10/07
مراكب الموت.. لم يعد هناك المزيد ليُرى
حاجيات ضحايا قارب الموت على شاطئ طرطوس
increase حجم الخط decrease
مع كل صدامٍ يحدث في هذه البلاد المحطّمة، خبرٌ يعيد تكرار المشهد من بدايته المأسوية. مؤخراً، يبدو أننا تصالحنا بالفعل مع تسمية "مراكب الموت" في وسائل الإعلام المحلية المتباهية باستضافة المتآمرين على هؤلاء المساكين الهاربين عبر البحر، فيما تحصي الوفيات بأرقام لا تثبت بل تتفاقم توازياً مع هول "المجزرة" وما سبقها من "مجازر".


تلاحق وسائل الإعلام، المسؤولين، ليس حرصاً منها على التزامٍ أخلاقي وإنساني، بل لتغذّي برامجها وتصطاد البطولات من زواريب الفقر والحرمان. تقارير مستنسخة عن السوشال ميديا، من دون جديد يُذكَر. بينما المسؤولون يتابعون المصيبة، وكأن لهم في هذا العزاء واجب من قتل القتيل ومشى في جنازته. 

أنا واحدة من ملايين فكروا أن الخلاص ربما يكون في انتخابات رئاسة الجمهورية. غاب عنا أن هذه البلاد كريهة، كرائحة البخور العابقة في قبورنا، ولن يطاولها أمل في التغيير، بل هي ملعونة. لا خير لنا هنا. لا شيء سوى العبور في زورق متهالك، ورؤية كل هذه الأجساد الفانية أمامنا.

بتنا كالحيوانات، نتطلع إلى محمية لنا، نحن المقهورين، نلجأ إليها بعيداً من الوحشية والظلم، لعلها تنقذنا قبل الغرق، وترانا قبل دوي صراخنا في البحر، وتنتشلنا من تهورنا قبل انتحارنا. 

أقرأ الخبر وأستعيد توبيخ أمي لي حين تجدني أطعم كلبتي لحماً: "الناس عم تموت من الجوع وإنت عم تشتري اللحمة للكلاب". ليت أمي تعلم بأنني أطعم اللحم لكلبتي بعدما فقدت شهيتي منذ وقت طويل، لأنني، كهؤلاء الضحايا، أنتظر هجرتي مستسلمة. ولأنني، كمركب الموت هذا، أبحر بكل تعاستي كي أغرق وحيدة. كيف أشرح لأمي بأنني لا أريد لكلبتي مصيري، أخاف عليها من رصاصة طائشة، من السرقة أو من كارهٍ للكلاب يصوّب السلاح نحوها. أخاف على كلبتي وعليّ من "فشّة خلق"، من كل شيء يهدّدني يوميّاً. أصبح الذعر خيالاً يرافقني كلما خرجت الى الشارع.

أتكلم هنا عن امتياز أن تمتلك حيواناً أليفاً، رغم خيبتك، وأنت تعلم أنك قادرٌ على إطعامه والإهتمام بصحته رغم إهمالك لصحّتك النفسية والجسدية. أن تجد في هذا الحيوان نعمة الهروب من الواقع البشري السوداوي، نعمة الاستيقاظ ولو مرغماً كل صباح، وفقط من أجل هذا الحيوان. تقول لي أمي، وأوافقها: "كلنا بدنا نموت". لكن في داخلي ذَنباً يا أمي. سنموت بطوننا مشبعة باللحم الحلال، سنرحل في نعشٍ مرتبٍ ومزين، سيكون لنا شاهد قبر من رخام لأننا لن نموت فقراء، ولأننا يا أمي نحمل عار بطوننا الممتلئة، عار صمتنا وكآبتنا ووحدتنا مع حيواناتنا. لأني يا أمي، عاجزة عن التضحية بكلّ هذا اللحم.

ضحايا القارب. أتساءل عن مشاعرهم المتضاربة أمام صغارهم، عن الفزع المقترن بالرّجاء في الخلاص والسلامة مع انتهاء الكابوس. أتساءل عن الأب المكافح على عربة رزقه، وعن الجنة تحت أقدام الأمهات وسط هذا الموج المتجمّد من أحاسيس العطف والرحمة. أتساءل عن نظرات الأم الفارغة لأبنائها، عن استنجادها وحسرتها. أتساءل عن الحضن الدافئ، عن نساءٍ معذّبات، عن مضحّياتٍ وثائرات حتى النفَس الأخير. عن بطلاتٍ تفرّدن في عنادنهن لإنقاذ عائلاتهن من جحيم الوطن. عن حالماتٍ بحياةٍ أفضل بعيداً من الهواء الملوّث بالفساد. أتساءل عمّن "ماتت بليلة ما فيها ضو قمر".

أتصفح "انستغرام" وأحاول تفادي "ستوري" أصدقائي، لأنني هشة كتلك المراكب. لا أريد متابعة أخبار الغرق. أفتقر الى التعاطف بعد غرق أخي، وحتى مواساة نفسي لم تعد لها قيمة. كلّ شيءٍ مبعثر في رأسي كتلك الجثث، وقلبي على استعداد للتوقف. من يزاول كل هذا الألم ليس لديه حق الرفاهية، ولا حتى له النية في التراجع عن يأسه. ألم مشاهدة كل هذه المجازر من حولنا. ألمٌ ينبّهك بأنك لا حيلة لك ولا مقاومة ولا مستقبل يعوّض كل هذه الأحزان.

وسط خوفي من المشاهدة، يمر مقطع مصوّر للمغنية الإيسلندية، بيورك، فأهمس باستهزاء: "هل تصلها صور الجثث على شواطئ التهريب؟". لطالما شعرت مع عروض بيورك المصورة بأنني في عالم آخر. غرابة أزيائها وعتمة مسرحها، جوقتها وصوتها المرتعش في أغلب الأحيان. حضورها بقامتها القصيرة وطول كعب حذائها.


استرجعت في ذاكرتي فيلمها الموسيقي "راقصة في الظلام" للمخرج لارس فون تراير، وتحديداً تلك الأغنية "رأيت كل شيء" التي لطالما أعطتني جرعة مبالغاً فيها من الإرادة، لكنها لم تخدّر حزني، وهذا لم يمنعي من البكاء مجدداً. لا أستطيع نسيان مشهد الإعدام في الفيلم، مشهد النهاية ومشهد الحكاية، حيث الشرّ ينتصر دائماً. أمّ مهزومة أمام حبل مشنقتها هي التي أبكتنا حتى ما بعد انتهاء الفيلم، وحتى بعد كل هذه السنين على إنتاجه، يبقى هذا المشهد الأشبه بما مرّت به أمهات ونساء مراكب الموت.

يروي الفيلم قصة عاملة مصنع مهاجرة إلى الولايات المتحدة من تشيكوسلوفاكيا، تعاني مرضاً وراثياً في شبكة العين، فتفقد بصرها تدريجياً حتى العمى. تدّخر المال لإجراء جراحة لابنها الصغير علّها تجنّبه المعاناة نفسها، إلا أنها لم تستطع تفادي حكماً ظالماً أنهى حياتها. هذا الكفاح وهذه الحرب من أجل النجا،ة رغم قسوة الحياة، هذا الوهم بالشفاء وخلق أمل أمام خطر من يفترسنا ويرمينا كبقايا متعفّنة تصلح طعاماً للقطط. مرارة هذا المشهد الموجع تنغرس في قلوبنا إلى حد الهلع والرغبة في الموت أيضاً. نحن الباقين، لن ننجو من هذا الذل ولو بالصدفة. نحن متفرّقات بلادنا حين يغطّيها الضباب، كشاشة مغبّشة بأجساد شوّهتها مياه البحر المالحة، نحن أكياس محمّلة بجثث أطفالنا ونسائنا ورجالنا.

لبنان ليس فرقة "ميّاس" بنسائها صاحبات الأجساد الليّنة والناجية. لبنان ليس منتخبه لكرة السلّة. لبنان ليس "تلفريك" جونيه ولا اكتظاظ مطاعمه. لا هو بحره، ولا جبله، ولا حتى ضجيج مغتربيه في صالة مطار بيروت. لبنان ليس أنا ولا أنت، ولا شعبه "العيّيش". لبنان أولئك العائمون على سطح مياهه، وأولئك المفقودين حتى الساعة. إن أردت التكلم عن لبنان، فلا عليك من نفطه، حدّثهم عن مراكب الموت في ليالٍ حالكة، وعن الجثث الطافية على صدورنا. وكما ختمتها بيورك: "لم يعد هناك المزيد ليُرى".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها