الأربعاء 2019/05/01

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

المُراقَب

الأربعاء 2019/05/01
المُراقَب
increase حجم الخط decrease
قضي صنع الله إبراهيم خمس سنوات في سجن الواحات. دخله العام 1959 في ما عرف بالقبضة الكبيرة على الشيوعيين، وخرج منه وعمره 28 عاماً. كتب عن التجربة باستفاضة في كتابه البديع "يوميات الواحات". لكن ما لم يكتب عنه بشكل توثيقي هى سنوات المراقبة التى قضاها بعد خروجه من السجن وإن تسلل أثرها إلى روايته الأولى "تلك الرائحة".

في الرواية التي تعرضت للمنع ولم تنشر كاملة إلا بعد عقود من كتابتها، يسرد صنع الله يوميات شاب خرج لتوه من السجن، لكنه، حتى بعد خروجه، لا يتمتع بالحرية، فكل يوم عند غروب الشمس لا بد أن يتواجد في منزله حيث يمر المخبر عليه ليوقع في الدفتر ويتأكد من وجوده. فمثل الكثير من المعتقلين السياسيين، اشتملت العقوبة على السجن والمراقبة.

كان لزاماً على صنع الله بعد خروجه أن يقضي الفترة من غروب الشمس الى شروقها في المنزل. محبوساً بين الجدران الأربعة، عكف صنع الله في هذا الوقت على الكتابة، ومن تلك الشذرات ولدت أعماله الأولى.

جعلت المراقبة صنع الله إبراهيم حبيس منزله، ومن هذه الحبسة ولد صنع الله الروائي الذي نعرفه الآن، لكن شباب المساجين السياسيين الذين يخرجون الآن من السجون بعد سنوات عمرهم التي ضاعت، لا يملكون الرفاهية التى تمتع بها صنع الله إبراهيم في ظل القبضة الحديدية لنظام عبد الناصر.

حالياً لم يعد مسموحاً بقضاء وقت المراقبة في المنزل، بل بات لزاماً عليهم أن يذهبوا بأنفسهم الى قسم الشرطة، حيث يقضون فترة المراقبة حتى الصباح في ما يشكل صورة من صور الاحتجاز، وكأنها عودة مؤقتة إلى السجن، لمدة 12 ساعة من غروب الشمس الى شروقها، ويتكرر هذا العذاب السيزيفي يومياً.

لمست شخصياً مأساة المراقبة. فبعد صدور الحكم عليّ بالسجن لمدة عامين، تم ترحيلي أولاً الى قسم بولاق، وهناك قضيت أربعة أيام في ضيافة كريمة من قسم الشرطة. لم يدخلوني الى غرف الحجز، بل وضعوني في ما يعرف "بالتخشيبة" وهي قفص حديدي موضوع في قاعة الاستقبال الأساسية في القسم. جلست في هذا القفص لأيام، أشاهد المواطنين الذين يأتون لتقديم البلاغات، ويتفرجون بدورهم عليّ مثل زوار حديقة الحيوان أمام قفص القرود.

في اليوم الثاني، أدركت الروتين اليومي لقسم الشرطة وطبيعة دوران عجلة العمل والإنتاج فيه. كل يوم عند الساعة السابعة تتوافد جحافل المسجلين والواقعة عليهم عقوبة المراقبة، وهم في الغالب تجار مخدرات صغار، أو معتادو الإجرام، أو بلطجية وطوائف متنوعة. أعرفهم من الدفاتر الصغيرة التى يحملونها معهم، يدخل واحدهم ويسلم الدفتر لأمين الشرطة ثم ينصرف، ويأتي في الصباح المبكرا مرة آخرى لاستلام الدفتر.

ينص القانون على أن حكم المراقبة يقضي بقضاء المحكوم عليه الفترة من غروب الشمس الى شروقها في مكان معلوم لقسم الشرطة التابع له، وحينما كانت الشرطة تقوم بجزء من عملها كما الحال في زمن صنع الله ابراهيم، كان قسم الشرطة يرسل مخبراً من طرفه ليتأكد من وجود المحكوم بالمراقبة. أمام الآن وقد ترهل جهاز الشرطة وتحول لحالة من الكسل والفشل متكامل الأركان، فهم يرفضون إرسال المخبرين ويطلبون من المحكوم عليهم أن يأتوا لتسليم أنفسهم في القسم.

شوكان، أحمد ماهر، علاء عبد الفتاح، عينة بسيطة من لائحة طويلة تضم مئات الشباب الذين خرجوا من السجن بعدما قضوا ثلاث إلى خمس سنوات. جميعهم يسعى لبدء حياة جديدة، ومحاولة جمع شتات ما تبعثر من نفسه ومن عائلته ومستقبله المهني، لكن أحكام المراقبة عليهم تجعل من المستحيل استكمال أي شيء أو استعادة ما فات من الحياة.

فمثل سندريلا، ما أن تقترب الساعة من السابعة، حتى يهرولوا إلى قسم الشرطة الذي يتبعون له، ليقضوا ليلتهم محتجزين هناك. يتعرض المحكومون بالمراقبة إلى تعنّت في تنفيذ القانون أولاً باحتجازهم، وثانية بمعاملتهم مرة أخرى كمجرمين. 

قبل ذلك، تعرض أحمد ماهر للتعنيف والضرب بسبب رفضه تنظيف ومسح أرضية القسم، وحالياً يتم التعنت مع علاء برفض وجود موبايله معه، أو كتب أو حتى مشغّل الأغاني. وحينما بدأت العائلة وأصدقاء علاء في الكتابة عن ظروف المراقبة والاحتجاز في القسم كل يوم، تهجم مجموعة من ضباط جهاز الأمن الوطني على علاء في زنزانته وهددوه، طالبين منه التوقف عن النشر في الانترنت بشأن ظروف احتجازه. في اليوم التالي، ذهب علاء الى القسم ليجد الضباط في القسم يسألونه إذا كان معه قفل ليغلقوا عليه القفص، بدلاً من القفل الذي كسره ضباط الأمن الوطنى بالأمس.

حالة متكاملة من الترهل، وانعدام المنطق. غباء الاستبداد وحماقة السلطة.

كل شهادات المحكومين بالمراقبة تتحدث كيف أن حالة المراقبة أسوأ من السجن. ويبدو الأمر من قبيل المبالغة لمن من لم يمر بتجربة السجن.

في السجن، بعد فترة، تصنع مساحتك الخاصة، لديك "فرشتك" التي تنام عليها، ويمكنك الذهاب إلى الحمام حينما تحب، لا تتعرض للسجان ولا يتعرض لك طالما التزمت بمكانك. في السجن وضع استقرار، يغفو فيه الأمل، فلا يُقلق سوى المرور الثقيل لعجلات الوقت. لكن في وضع المراقبة، لا استقرار، فأنت محبوس في القفص الحديدي، لا يسمح لك بدخول الحمام إلا بعد إذن المخبر أو أمين الشرطة، وبعد إذنه، يبحثون عن المفتاح، ليفتحوا لك لتذهب إلى الحمام. يتغير الضباط والمخبرون، ولا يعرفون هل أنت هنا لقضاء المراقبة، أم مقبوض عليك، أم مجرم؟

أثناء وجودي في القفص، كنت جالساً مرة على الأرض غير منتبه لشدة الارهاق، حينما فتح ضابط شاب القفص وانهال على وجهي صفعاً، لا لشيء إلا لأنه ظنني مسجلاً، ورأى في جلستي وعدم قيامي (انتباه) أثناء مروره، نوعاً من التحدي والإهانة لفخامته. 

في السجن، أنت مسجون، وهو وضع مفهوم يمكن استيعابه. لكن، في المراقبة أنت معلق من عرقوبك بين الحرية والسجن، بين الأمل واليأس. ليس في إمكانك أن تعمل، ولا أن تسافر، ولا أن تذهب حتى إلى الشاطئ.

تنهار حياتك أمامك كل يوم، ومع شروق الشمس، لا تعرف هل تذهب لترتاح من التعب، أم تبدأ من جديد في بناء حياتك. وقبل أن تضع حجرين فوق بعضهما البعض، يكون غروب الشمس وموعد العودة إلى القسم. متاهة عذاب جديدة، تضاف إلى سلسلة إنجازات الرئيس السيسي ونظامه القضائي، فمعهم لا راحة داخل السجن، ولا خارجه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها