السبت 2021/10/23

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

فلتكُن المجاعة على أصولها!

السبت 2021/10/23
فلتكُن المجاعة على أصولها!
في طريق العودة من المدرسة، كان القلق يتآكلني لدى التفكير في طبق البازيلا المشؤوم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لطالما كان الطعام بالنسبة إلي مرادفاً للهمّ. بدأ الأمر في سنّ مبكرة، كنت لا أزال في المدرسة الابتدائية، أو ربما قبل ذلك، بحسب روايات أمي عن زمن لا أذكره. ما أذكره هو طريق العودة من المدرسة، وأنا أجلس في إحدى زوايا الباص، أشعر بالقلق يتآكلني إثر التفكير في طبق البازيلا المشؤوم الذي ينتظرني في البيت، حتى كوّنتُ عادة مضغ شَعري من أجل تبديد هذا القلق.

كانت وجبة الغداء الإلزامية بعد المدرسة، أثقل عبء على قلبي، أثقل من همّ المدرسة نفسها. كنت أبغض تلك اللحظة التي سأجلس فيها على مائدة الطعام تحت عيني أمي المتيقظتين بانتظار إفشال محاولاتي للتهرب من تناول الطعام. كانت تعرف حِيَلي كلها.. بعثرة الطعام في الصحن كي يبدو وسطه فارغاً (خدعة بصرية كانت تُكسبني بعض النقاط فقط من أجل المحاولة). أو سرقة اللحظة التي تشيح بنظرها عن المائدة، لأرمي الطعام في سلة المهملات، أو في صحن أخي، أو في أحد الأكواب البلاستيكية غير الشفافة.

لكن هذه الحَيَل لم تكن تنطلي عليها بالطبع، فكانت تمنعني من مغادرة المائدة قبل إفراغ صحني. يستغرق الأمر أحياناً ساعات، أجلس خلالها محدقة بعينين فارغتين في طعام أمقته، مُحاصرةً بنظرات أمي المؤنّبة وكأنها تقول لي: فلنرى مَن سيكسب هذه الجولة من العناد. كان عليّ أن ألتهم طعامي كي أشتري حريتي. لكني لم أكن أرضى بهذا الانعتاق المؤقت، الذي ينغصهه موعد الأكل المقبل. كانت الحرية بالنسبة إليّ هي في التخلص من فعل الأكل كلّه على بعضه. ومن أجل هذا السبب بالتحديد، صادقتُ زميلة لي في المدرسة قدّمت لي أعظم خدمة على الاطلاق.. استعدادها لالتهام كل ما أعرضه عليها من طعام. حرّرتني من سندويشاتي ومن توبيخ أمي الساخر حين أعود من المدرسة فتجد أني لم أمسّ طعامي فتقول "ايه خلّي التفاحة تكزدر معك بالاوتوكار كل يوم". لكن أهم ما حرّرتني منه تلك الصديقة، هو الذنب.

كانت لدينا عادة، نحن الأطفال، أن نقبّل الطعام قبل رميه، وننظر الى أعلى مستجدين المغفرة من الله. كنت أقبّل الطعام، لكني لا آكله، وأعتذر من الله، ومن أطفال الصين الجائعين، ومن أمي التي أعدت الطعام، ومن نفسي. كبرت وما زلتُ أرمي الطعام، فتوقفت عن شرائه تماماً. لا رغبة لي في الاعتذار من أحد. فلتكن المجاعة على أصولها!

منذ حوالى السنتين، ومع بداية الأزمة الاقتصادية، بدأ الحديث في لبنان عن "مجاعة" مرتقبة. هكذا انتقلنا، في قفزةٍ دراماتيكية منفردة، من التلذذ بأشهى أصناف الطعام الفاخر والـdelicacies مباشرةً الى المجاعة. بدأ التحضير، داخل البيوت، لتخزين العدس والطحين والأرز، وكل الأساسيات التي لا أعرف ماذا أفعل بها. لبرهةٍ، أُخذت بموجة الهلع هذه، وشعرت بالحاجة للدفاع عن نفسي ضدّ الجوع القسري- في هذه الحالة- ومجاراة كل من حولي في حركة التموين الاستباقية التي لا طائل منها. موّنتُ ما استطعت من منتجات غذائية (ومعظمها لا يصلح للتموين حقيقةً) وأودعتها في البراد والخزائن حيث مكثت لأشهر تنتظر تعفّنها. استفحلت الأزمة الاقتصادية، وزاد الحديث عن الجوع والحرمان، وطعامي ما زال يتعفن. ظننت أن الخوف من الجوع القسري، سيغيّر علاقتي بالطعام التي بُنيت أساساً على الإكراه. لكن العكس هو ما حدث. فتراجُع جودة الطعام أعطاني الذريعة المثالية للتملّص من فعل الأكل بشكل تامّ.

أفرغتُ برّادي من كل ما هو فاسد، أي من كل شيء تقريباً. تركت داخله بعض السوائل ومرطبان "نوتيللا". ورغم كُرهي للطعام في الطفولة، فقد كنت أحب النوتيللا. حسناً سأسكّت به جوعي كلّما انتفضت معدتي. بنج موضعي يمكّنني من الاستمرار على طاقة السُّكر وما يرافقه من إفراز للـ"دوبامين". لكن، لماذا تحمل هذه النيوتيللا مذاق الموت؟ أنظر الى الشوكولا السائح وأشعر بالقرف، أريد أن أتقيأ أمعائي. أريد التخلص من كل أعضائي الداخلية، أن أتحول الى جَوف. أن أقطع كل القنوات التي تصل داخلي بالخارج. أريد جسدي قلعة محصنة لا يدخلها ولا يخرج منها شيء.

أستمع الى تجارب البوليميين، خصوصاً أولئك الذين يتقيأون ما يأكلون. تحملني تفاهتي على الشعور بالاعتزاز كوني لا أضطر الى تقيؤ ما أتناوله من طعام، فأنا لا أرضخ أصلاً لهذه الرغبة، أستطيع تجويع نفسي بقوة الإرادة وحدها!.. "ما إلي نَفْس" هو دفاعي الوحيد إزاء هذه المهزلة. يروقني هذا التعبير. فهل هذا الميل للتحلل العضوي هو رغبة للتجرّد من الذات أيضاً؟ هذا لا يعني أن لا رغبة لديّ في الطعام نهائياً، لكنها رغبة ملتوية ومشوّهة. هي رغبة أمي التي أردّها خائبة، رغم إدراكي لحماقة هذا الفعل. المضحك الآن أن هذه الرغبة لا تعتريني سوى على مائدة أمي، حيث أستطيع التهام كل ما تضعه أمامي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها